مثلما استخدم هنري كيسنجر غارات السلاح الجوي الأميركي على هانوي، بهدف كسب مزيد من التنازلات السياسية في مفاوضات السلام… هكذا يستعمل الرئيس بشار الأسد الـتكتيك ذاته على أمل كسب مزيد من الأوراق السياسية في مفاوضات جنيف هذا الأسبوع.
وعلى ضوء هذه الخطة هاجمت القوات النظامية السورية مختلف الأحياء التي كسبتها المعارضة حول أطراف دمشق. وأفاد «المرصد السوري لحقوق الإنسان» بأن قوات النظام هاجمت أحياء القابون وبرزة وتشرين، بدعم من الطيران الحربي الذي نفذ غارات عدة على أحياء مختلفة. كذلك استهدف بصواريخ أرض- أرض المواقع الشرقية من العاصمة ومنطقة البرج والغوطة. وفي تطور لافت، أحرز الجيش السوري تقدماً في المنطقة الواقعة جنوب شرقي مدينة الباب عقب انسحاب قوات تنظيم «داعش» من 23 قرية.
ويرى المراقبون أن روسيا دعمت هذه الخطوات العسكرية قبل زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان موسكو، بهدف إقناعه بأهمية الموافقة على بقاء الأسد في الحكم.
والثابت في هذا السياق أن الأسد يطبق النصيحة التي أسداها إليه الرئيس الإيراني حسن روحاني، والتي تشدد على أهمية القضاء على تنظيم «داعش» في سورية والعراق. لهذا وضع رئيس الوفد السوري إلى مفاوضات جنيف، بشار الجعفري، قرار محاربة الإرهاب قبل الخوض في أي بحث يتعلق بتشكيل هيئة حكم انتقالي.
حدث أثناء انعقاد مؤتمر جنيف أن حاولت واشنطن وباريس ولندن التأثير على مجرى المفاوضات عبر قرار يصدر عن مجلس الأمن. ويفرض القرار عقوبات على كبار الضباط العسكريين والأمنيين السوريين، استناداً إلى التحقيقات الدولية التي أثبتت أن القوات السورية استخدمت أسلحة كيماوية محرمة.
وللمرة الأولى، تصطدم إدارة الرئيس ترامب بالفيتو الروسي، إلى جانب فيتو مماثل من الصين. وقد اكتشفت موسكو من خلال هذه الخطوة المفاجئة أن سياسة الرئيس الأميركي الجديد في الشرق الأوسط لا تختلف، من حيث المبدأ، عن سياسة سلفه الجمهوري جورج دبليو بوش. والدليل على ذلك أنه هدد بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران، إضافة إلى فرض عقوبات جديدة عليها. وقد أعربت طهران عن استغرابها عندما ضمها ترامب إلى قائمة الدول التي تعاني من حروب أهلية مثلها مثل العراق وسورية والسودان وليبيا. ويبدو أن هذا التصنيف وضع خصوصاً للانتقام من عهد سلفه باراك أوباما.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عقد مؤتمراً صحافياً قال فيه إن بلاده تعارض فرض أي عقوبات جديدة على النظام السوري، لأن ذلك يقوّض جهود السلام الرامية إلى إنهاء الحرب الدامية في سورية.
وحقيقة الأمر أن روسيا قامت باستدارة سياسية ملفتة عندما انتهجت خطاً أكثر حيادية في مؤتمر آستانة، ذلك أنها أمرت وسائل الإعلام بالتخلي عن وصف المعارضة المسلحة في سورية بـ «الإرهابيين»، وكان ذلك بمثابة المدخل إلى دعوة مجموعات المعارضة السورية (القاهرة والرياض وموسكو) إلى لقاء مع وزير الخارجية سيرغي لافروف في 27 كانون الثاني (يناير).
وانتقدت طهران هذه الخطوة لأنها تضعف سيطرة ميليشياتها على التحكم بمفاصل النظام الذي رعته وفقدت أكثر من ألف عنصر في أجل حمايته. في حين تسعى موسكو إلى إحياء الدولة السورية القوية التي تحتكر وحدها القوة المسلحة، بعد الموافقة على مشاركة المعارضة في السلطة. وهذا ما أكدته في مؤتمر آستانة عندما جمعت بين مسؤولين في الحكومة السورية وأبرز ممثلين عن الجماعات المسلحة. علماً أن الوفدَيْن لم يوقعا البيان الختامي، إلا أن اجتماعهما معاً مهَّد الأجواء أمام التسوية السياسية التي عقدت في جنيف. خصوصاً بعد الانعطافة الروسية، وتغيير دور موسكو من العمل العسكري إلى العمل الدبلوماسي.
وتشير الصحف الأوروبية إلى أن الخط الجديد الذي رسمته روسيا جاء نتيجة تدخلها العسكري بغرض ضمان بقاء النظام السوري. لذلك قبلت بتسوية سياسية على أن تترك مساحات واسعة من البلاد تحت السيطرة الفعلية للمعارضة، شرط أن تندمج هذه المعارضة داخل حكومة مشتركة، مثلما اندمج ثوار الشيشان في روسيا.
ويعترف أنصار الأسد بأنه واجه ضغوطاً متواصلة من قبل موسكو من أجل إلزامه بوقف إطلاق النار وحمله، مع إيران، على التوصل إلى تسوية سياسية مع المعارضة. وكان الأسد أجرى قبل أسبوعين حديثاً مع موقع «ياهو نيوز» الإخباري، رد فيه على اقتراح الرئيس الأميركي دونالد ترامب حول ضرور إقامة مناطق آمنة داخل سورية. وجاء في الاقتراح أن الغاية من وراء تحديد هذه المناطق وقف تدفق اللاجئين على الدول المجاورة مثل لبنان والأردن وتركيا، أو على الدول الأوروبية مثل ألمانيا وفرنسا واليونان.
وربط الأسد في رده على ترامب مسألة إنشاء مناطق آمنة للمدنيين بضرورة إيجاد حال استقرار دائمة في تلك المواقع. والاستقرار – كما وصفه الأسد – لا يقتصر على مدينة حلب فقط، وإنما يشمل كل المدن والمحافظات، بحيث يسهل على الجيش النظامي ضبط الأمن ومراقبة تطبيق القانون.
وكان من الطبيعي أن يثير تصريح الأسد استهجان المعارضة التي وصفته بـ «رهين المحبسَيْن»، أي إيران وروسيا. صحيح أن ممثله في جنيف السفير بشار الجعفري يتصرف بقوة واستقلالية تحجبان عن المفاوضين الإرادات الدولية التي تحدد للنظام دوره المحلي والإقليمي… ولكن الصحيح أيضاً أن الأسد يراهن على قرب انسحاب القوات الروسية من بلاده. ولقد جرب بوتين قبل فترة وجيزة سحب جزء من قواته البرية كاختبار تمهيدي، على اعتبار أنه يتحاشى الظهور بمظهر قوة احتلال. والثابت أن أفراد جيشه يتعرضون يومياً لعمليات اغتيال من عناصر مجهولة. وربما تنتمي هذه العناصر إلى إيران أو إلى «القاعدة» أو إلى أي حركة وطنية داخلية. لهذه الأسباب وسواها سيقوم الجيش الروسي بانسحاب تدريجي، على أن يترك قرب ساحل اللاذقية بعض بوارجه الحربية.
وعلى ضوء هذا الواقع، يتصرف الأسد مع بوتين تصرفاً لائقاً، خصوصاً بعدما منعه من السقوط، ووعده بالبقاء في السلطة حتى نهاية ولايته. ولكن البقاء في السلطة لا يريح الأسد في حال انسحب بوتين وتركه مقيداً بإرادة إيران المنشغلة حالياً بتشويش ترامب وتهديده بإسقاط الاتفاق الذي عقده معها أوباما. ومع أنه جيّر الانتصار العسكري في حلب لصالحه، إلا أن الخريطة الفسيفسائية تؤكد أن مناطق كثيرة في الدولة ما زالت خارج سيطرة النظام. وأهم هذه المناطق هي إدلب، إضافة إلى منطقة الرقة، «عاصمة» تنظيم «داعش». وقد يكون من الصعب إظهار أهمية القوى المتصارعة بين إدلب والرقة، ففي جزء من الحدود الواقعة بين تركيا وسورية تسيطر الميليشيات الكردية التي هي ضد القوات التركية وضد «داعش». وفي جزء كبير من دير الزور، انتشرت ميليشيات مختلطة قوامها «داعش» والأكراد والجيش السوري.
هذا الأسبوع، تطور الوضع الميداني في الموصل بطريقة غطت على أخبار مؤتمر جنيف. والموصل هي مدينة يسكنها حوالي مليون ونصف المليون نسمة، أي عشرة أضعاف العدد الموجود في حلب بعد تدميرها وتحريرها. وبسبب أهميتها الإستراتيجية والرمزية، كونها المدينة الأولى التي أعلن أبو بكر البغدادي نظام «الخلافة» من جامعها الكبير، فإن عيون الأكراد والجيش العراقي وتركيا والميليشيات الشيعية الإيرانية، شاخصة نحوها. ومن المتوقع أن تشهد هذه المدينة صراعات وتصفية حسابات على خلفية سياسية ومذهبية، إضافة إلى التزاحم على مصادرة آبار النفط والغاز… والى إيواء آلاف المشردين ممن هربوا من «داعش» ومن ساحات الحرب.
وفي تعليق سريع يختصر كل التوقعات، قال مسعود البارزاني: إن تحرير الموصل سيكون أقل صعوبة من إدارتها.
وبالمقارنة مع تحرير حلب، فإن مؤتمر جنيف سيُستأنف في يوم 14 آذار (مارس) الجاري، في كازاخستان بمشاركة المعارضة المسلحة وروسيا وإيران وتركيا.
ومع أن الموفد الدولي الخاص ستيفان دي ميستورا لم يُفصح عن تفاصيل الجولة الخامسة، إلا أن أخبار موسكو تتحدث عن قبول النظام بتحقيق انتقال سياسي. ومن المتوقع أن تنجح روسيا في تجسير الهوّة التي تفصل بين أولويات فريقين يطرح كل منهما حلولاً غير عملية لقضية بالغة التعقيد.
والثابت أن بوتين لم يعد يحتمل الانتظار الطويل بعدما اكتشف أن شهر العسل مع ترامب لم يكن أكثر من خدعة أميركية موقتة!