جرت العادة لدى الرؤساء الأمريكيين، على أن يكون لكل منهم مبدأ Doctrine محوري تقوم عليه وتتحرك به سياسته الخارجية. فمثلاً اتخذ أوباما لولايته مبدأ المشاركة من جانب دول أخرى، في مواجهة التحديات للأمن القومي، وحل الأزمات الدولية والإقليمية. ومن قبله كان لجورج دبليو بوش مبدأ الضربة الاستباقية ضد عدو محتمل، وعسكرة السياسة الخارجية، حسب مبدأ «القوة تسبق الدبلوماسية».
وكان مبدأ الاحتواء، أي احتواء الاتحاد السوفييتي وحلفائه داخل دائرة من الحصار، تتكون من الأحلاف والقواعد العسكرية، والسياسية، قد بدأ العمل به مع عهد ترومان ومن خلفه من الرؤساء. وظل مبدأ الاحتواء عنصراً أساسياً في تأكيد استمرارية السياسة الخارجية أثناء الحرب الباردة.
ويتفق عدد كبير من المحللين في أمريكا هذه الأيام على توقعات بأن يقوم مبدأ ترامب للسياسة الخارجية، على مفهوم التبادلية بين أمريكا وحلفائها في تحمل أعباء مشاركتها في ضمانات أمنهم. وعلى تقليص الالتزامات الدفاعية الأمريكية تجاه الحلفاء، إذا لم يسهموا في تحمل القدر الكافي من تمويل هذه الالتزامات.
وهو ما أشار إليه ترامب من أن أمريكا تحملت الكثير جداً من تكلفة ومسؤولية المحافظة على النظام الدولي. وهو ما يُعنى بدرجة كبيرة من العلاقة مع حلف الأطلسي، والذي يرى أن على أعضائه بذل جهد أكبر مما يبذلون حالياً في إطار التحالف.
وسبق أن ذكر ترامب، بالتحديد، أن الولايات المتحدة ستقدم الكثير لحلفائها، إذا قدموا هم الكثير لأنفسهم.
وقد يبدو هذا التوجه مفاجئاً، أو أن به خروجاً على المألوف في علاقات أمريكا الخارجية، لكن الواضح أنه يُعد امتداداً لسياسة كانت مؤشراتها الأولى قد ظهرت من جانب إدارة أوباما، والتي راحت تركز على متانة العلاقة وثباتها لفظاً، لكنها لم تكن كذلك عملياً.
وهو ما أثار ردود فعل بالقلق في أوروبا، وفي بعض بلدان الشرق الأوسط، خاصة وأن ذلك قد يعنى إعادة صياغة العلاقات التقليدية التي استمرت سنوات طويلة، بشكل كاد يكون راسخاً.
لكن الجديد أن ترامب أكثر صراحة من سابقيه، وتخلو طريقته في عرض أفكاره، من المواربة، وإن جاءت صادمة في بعض الأحيان.
البعض من أنصار ترامب يضعون من الآن تعريفاً لما هو متوقع من سياسته الخارجية، بقولهم إنها ستكون متواضعة Humble، ولكن حازمة Firmly. بما يعنى أن وضع السياسة الخارجية في المسار المنشود، قد يكون عملية صعبة، حتى ولو لأكثر الناس خبرة. خاصة إذا كان المطلوب تعديل قاعدة للسياسة الخارجية، تنوعت أبعادها في المجالات الأمنية والاقتصادية، والسياسية، والتجارية، وغيرها.
إن ترامب الذي فاز بأصوات من سماهم كبار المحللين في أمريكا «بائتلاف المحبطين والغاضبين»، يشعر أن من انتخبوه لديهم رؤية سياسية محددة، وهو ما أوضحته استطلاعات الرأي العام، حيث قال أكثر من 80% من الأمريكيين، إن أمريكا تمشي في الطريق الخطأ تحت قيادة النخبة السياسية، والتي تملك النفوذ الأكبر على صناعة قرار السياسة الخارجية، وأنها لم تستطع أن تتواءم مع نظام عالمي يتغير بصورة هائلة. وصاحب ذلك تراجع في حالة التوافق Consensusبين النخبة والرأي العام، حول السياسة الخارجية. ومن المعروف أن هذا التوافق كان بمثابة الرصيد لدعم توجهات السياسة الخارجية لأي رئيس.
من ثمّ فإن القاعدة التي كانت ثابتة والقائلة إن عناصر الاستمرار في السياسة الخارجية أكبر وأقوى من عناصر التغيير، معرضة لانقلاب ميزانها، لصالح مبدأ التغيير. ولم يعد الأمر يقتصر على الفجوة المتسعة بين الرأي العام والنخبة، بل إلى تراجع التوافق في صفوف النخبة ذاتها.
من هنا، فإن الفترة القليلة القادمة سوف تحسم الجدل حول ما إذا كانت سياسة ترامب ستكون لصالح فكرة التغيير الكبير والعاجل، أم لصالح أنصار التغيير المحسوب والمتدرج.
ولاشك أن أفكار ترامب التي طرحها أثناء حملته الانتخابية، ثم من بعد فوزه يمكن أن يُعاد صقلها وبلورتها بشكل احترافي عند جلوس ترامب في مكتبه البيضاوي بالبيت الأبيض، وحواراته مع مستشاريه للأمن القومي، والقيادات العسكرية بالبنتاغون، وإطلاعه على تقارير وكالات المخابرات التي تعرض عليه يومياً، وفتح خزائن الأسرار المغلقة، إلّا لمن يسكن البيت الأبيض، عن سياسات غير معلنة، وعلاقات خفية مع دول ومنظمات وشخصيات في العالم، وقرارات سياسية عاجلة أو مؤجلة، وتوقعات بشأن أحداث أو مشاكل تمثل تحديات لأمريكا.. وكل ذلك لابد وأن يدخل في صياغة الرؤية النهائية لسياسة ترامب الخارجية.