ليست المعركة التي يخوضها الجيش العراقي لاستعادة مدينة الموصل من تنظيم «داعش»، انتصاراً وتقدماً في الحرب على الإرهاب فقط. الأهم من ذلك أنها معركة يمكن إذا أحسنت حكومة بغداد إدارتها أن تمهد لاستعادة الدولة العراقية قرارها وسلطتها على قسم من أرضها ومواطنيها، بعدما كان التخلي عن تلك الأرض وهؤلاء الناس هو ما أسقط الموصل أساساً في يد «داعش» قبل ثلاث سنوات.
طبعاً هناك فرق بين ظروف حزيران (يونيو) 2014، تاريخ سقوط الموصل وبين ما يجري اليوم. أولاً هناك حيدر العبادي على رأس الحكومة العراقية، وهو بكل المقاييس مختلف عن نوري المالكي، الذي لم يوفر فرصة إلا وغذّى الشحن الطائفي والمذهبي في العراق، حتى كاد أبناء الموصل والأنبار وسائر المناطق ذات الأكثرية السنّية لا يجدون فرقاً بين ما ترتكبه حكومتهم من تجاوزات وما يرتكبه أي تنظيم مسلح، بما في ذلك تنظيم «داعش» نفسه. فوق ذلك لم تشعر قيادة الجيش العراقي آنذاك عندما تخلت عن أبناء الموصل بأنها تترك أهل المدينة مستباحين لشرور التنظيم، بل جرى التعامل معهم إلى حد بعيد وكأنهم كلهم «داعشيون»، وكان ذلك أصل المشكلة في تعامل الحكومة العراقية في ذلك الوقت مع جزء معتبر من مواطنيها. بدا الأمر وكأن حكومة المالكي تمارس سياسة الانتقام من أهل الموصل عندما تخلت عنهم.
الفرح بالانتصار الكامل على «داعش» في العراق قد يكون مبكراً. هناك الجزء الغربي من المدينة وهو جزء مكتظ بالسكان (حوالى 700 ألف ربما كان نصفهم من الأطفال) يعيش بينهم ما لا يقل عن 3 آلاف مقاتل من «داعش»، يتحصنون في الشوارع وبين الأبنية، ما يعني أن التقدم في هذا الجزء سوف يكون مكلفاً جداً، من الناحية البشرية وعلى صعيد الدمار الذي سيخلّفه، إذا قرر الجيش العراقي اقتحامه. كما يتوقع أن تكون مقاومة عناصر «داعش» انتحارية إلى آخر الحدود، فيما هم يشهدون نهاية حلم «الخلافة» في العراق الذي أطلق منه البغدادي أول خطبه وأشهرها.
هناك أيضاً الطريقة التي ستتعامل بها القوات المقتحمة مع أبناء الموصل. هل سوف تعتبرهم متآمرين عليها أم ستحتضنهم باعتبار أنهم هم أيضاً ضحايا «داعش»، مثلما هو العراق وكل المناطق التي فرض عليها هذا التنظيم الإرهابي أفكاره وممارساته؟ صحيح أن رئيس الحكومة حيدر العبادي دعا أهالي الموصل إلى مساندة القوات الأمنية لتحريرهم من «داعش»، مشدداً على ضرورة إنقاذ المدنيين وحمايتهم، غير أن مساندة سكان الموصل للقوات الأمنية تفترض أن يشعروا بأن الانتصار على «داعش» سوف يكون انتصاراً للعراق وليس انتصاراً مذهبياً وطائفياً لفريق أو طرف.
مع كل ذلك، ليست معركة الموصل آخر الطريق مع أبو بكر البغدادي. فهو يدرك أن ظروف المعركة الجارية ضد تنظيمه في العراق ستكون مختلفة عن تلك التي يتم التخطيط لها للقضاء عليه في «عاصمته» الثانية، الرقة. إذ فيما يواجهه في العراق تحالف عراقي كردي اميركي، معطوف على رضا إيراني وموافقة تركية، يختلف الأمر في المواجهة معه في سورية، حيث الصراعات العربية – الكردية والسنّية – العلوية، فضلاً عن غياب سيطرة الدولة، ما يجعل إمساك «داعش» بالرقة مسألة طويلة الأمد. يضاف إلى ذلك أن الوصول إلى الرقة يقتضي المرور عبر الأراضي الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية أو تلك الخاضعة للبيشمركة الكردية.
في نهاية الأمر، قد يُهزم «داعش» اليوم في الموصل وغداً أو بعد غد في الرقة. وقد يكون المناخ الدولي مواتياً الآن لمشاركة أوسع في الحرب على هذا التنظيم. لكن هزيمته الحقيقية يفترض أن تكون هزيمة لأفكاره المتطرفة ولقدرته على غسل عقول أتباعه وزرع التفسيرات الدينية المشوّهة في عقولهم. وهذه حرب أخرى لا يمكن تحقيق الانتصار فيها بقوة المدافع والطائرات وحدها.