خلال عامي 2015 و2016، عانت أوروبا كثيراً من جرائم الإرهاب التي بدأت بالهجوم على جريدة شارل أبدو في باريس، وتصاعدت حدتها مع منتصف العام في سلسلة من جرائم الإرهاب ضربت العاصمة الفرنسية مرة أخرى.
كما عانى الأوروبيون من زيادة موجات الهجرة القادمة من سوريا، في الوقت الذي هزت اليونان أزمة اقتصادية ومالية ضخمة، رفعت نسبة البطالة في جنوب أوروبا إلى أكثر من 20 %، وهددت دول اليورو بالإفلاس، وقبل نهاية عام 2016، وصلت الأزمة الأوروبية إلى ذروتها بخروج البريطانيين من الاتحاد الأوروبي في استفتاء عام، رفضت فيه الأغلبية البقاء في الاتحاد، رغماً عن موقف الحكومة والأحزاب التقليدية.
وبالطبع، أدت هذه التغييرات إلى انتشار الأحزاب الشعبوية، وزادت من حدة حركات التمرد في أوروبا، وأسهمت في خلق مناخ يسوده التوتر والخوف والغضب بسبب مشاكل الهجرة، مكن هذه الأحزاب من أن تكون في قلب السياسات الأوروبية ومركزها.
ومع أن الأوروبيين كانوا قد قبلوا في المجمل سياسات العولمة التي تسقط كل الحواجز، بما في ذلك الحدود الجغرافية أمام عبور الأموال والأفكار، بعد أن تحول العالم إلى قرية إلكترونية صغيرة، إلا أنهم رفضوا مبدأ حرية عبور الأشخاص في إطار سماوات وحدود مفتوحة بلا ضابط، بسبب مضاعفات الهجرة وآثارها.
ومع بداية عام 2016، كان هناك أكثر من 250 مليون مهاجر غادروا بلادهم وغيروا أوطانهم، ذهبت النسبة الأكبر منهم إلى أوروبا، التي استوعبت 76 مليون مهاجر، جاؤوا من أصقاع بلاد وألوان وبيئات مختلفة، وشكلوا صدمة كبيرة للمواطنين الأوروبيين، وهم يرون الآخر الذي يختلف عنهم في اللون واللغة، وربما في الدين، يصبح ضمن جوارهم السكني الأقرب، ويزاحمهم على فرص العمالة وحقوق المواطنة!
أسهمت كل هذه العوامل في أن تصبح الأحزاب والحركات الشعبوية مركز الثقل في حياة أوروبا السياسية، بعد أن أصبح لها تمثيل قوي في كافة البرلمانات الأوروبية.
وفضلاً عن ذلك، حصلت الأحزاب الشعبوية على الأغلبية البرلمانية في أكثر من ست دول أوروبية هي اليونان والمجر وإيطاليا وسلوفاكيا وبولندا وسويسرا وإسبانيا، وفي المجر ينتمي كل من حزبي الحكم والمعارضة إلى الأحزاب الشعبوية، وفي النمسا، أصبح من المؤكد أن يفوز في الانتخابات الرئاسية نوبرت هوفر، أحد قادة الأحزاب الشعبوية الذي يتقدم كافة منافسيه في كل استطلاعات الرأي العام، فضلاً عن الاحتمالات المتزايدة في أن تفوز مارين لوبان في انتخابات الرئاسة الفرنسية القادمة.
وثمة ما يشير إلى أن الأحزاب والحركات الشعبوية يمكن أن تحقق المزيد من التقدم بعد نجاح الشعبوية في أميركا بزعامة ترامب، الذي يعتقد أنه جزء من حركة عالمية واسعة، يمكن أن يتحقق لها الغلبة في أوروبا والولايات المتحدة، لأنه ما من بلد أوروبي الآن لا يحظى فيه الحزب الشعبوي بالمكانة الأولي أو الثانية!
مع ذلك، ثمة من يعتقد أن زحف الأحزاب الشعبوية على الحكم في أوروبا والولايات المتحدة، مجرد عرض مؤقت، ربما يزول بعد بضع سنوات، خاصة أن الأحزاب الشعبوية هي في جوهرها حركات تمرد حزبي، ترفض أطر الحكم الراهن.
لكن تجربة المجر ونجاح حزبها الشعبوي في أن يحافظ على شعبيته، ويدير الحكم بجدارة واستحقاق على مدى ست سنوات، تثبت عكس ذلك، فضلاً عن أن هذه الأحزاب الشعبوية الأوروبية كبرت ونمت، وأصبحت الآن مؤسسات حزبية ضخمة، نتيجة عوامل وأسباب موضوعية فرضت هذا التغيير.
وما من سبب واضح ينذر بتغيير هذه الأوضاع والأسباب، وعلى العكس، ثمة دراسة مهمة أجراها عالم السياسة الأميركي جوستين جيست، تؤكد أن 65 % من البيض الأميركيين على استعداد لأن يصوتوا لحزب سياسي يقف ضد الهجرة، ويستطيع خلق المزيد من فرص العمل يختص بها الأميركيون وحدهم.
ويحافظ على تراث أميركا المسيحية، ويوقف أي تهديد، بما يعني أن الطلب لا يزال قوياً على هذه الأحزاب الشعبوية التي تحسن مخاطبة مخاوف الجماهير من مشاكل الهجرة والعولمة وضعف الاقتصاديات الوطنية.
ربما يكون أخطر الاتهامات الموجهة إلى حركات التمرد الشعبوي، أنها تمثل نوعاً من الفاشية الجديدة التي ترفض الديمقراطية، كما ترفض الليبرالية الاقتصادية، وتتشكك في النظام الرأسمالي، وتعتقد بتقديس (الشعب) الذي ينطوي مفهومه على معانٍ دينية وعنصرية، وتتبنى نظاماً يقوم على الحشد يتصدره زعيم قوي ومسيطر.
وما زاد من شيوع هذه المقولة حكم المحكمة الفرنسية العليا بأحقية خصوم المرشحة لانتخابات الرئاسة الفرنسية، مارين لوبان، في أن يطلقوا عليها وصف (المرشحة الفاشية)، وهي التهمة ذاتها التي شاعت في انتخابات الرئاسة الأميركية للتحذير من مغبة انتخاب ترامب.
قد يكون هناك بعض السمات المشتركة بين الشعبوية والفاشية، لأن كليهما يتهم الديمقراطية بالضعف وعدم الكفاءة، ويدعيان القدرة على حماية الأمة من أعدائها، ويعتبرون أنفسهم المعبرين وحدهم عن الشعب، الذي غالباً ما يتم تحديد مفهومه بصور غامضة، أو من خلال عنصري الدين والعرق.
لكن عوامل الخلاف بين الحركات الشعبوية والفاشية، تبقى أقوى كثيراً من نقاط الاتفاق، لأن الحركات الشعبوية تنتقد الديمقراطية وتفصح عن عيوبها، لكنها لا تقدم نفسها بديلاً عن الديمقراطية، وإنما تعد بتقوية نظام الحكم الديمقراطي عندما يصبح أكثر كفاءة وأكثر قدرة على الاستجابة لمطالب الشعوب، وربما يكون للأحزاب الشعبوية ملاحظاتها المهمة على الليبرالية الاقتصادية، لكنها باليقين لا تعادي الديمقراطية أو ترفضها.