بدأ الملف الروسي يشغل خلال المرحلة الأخيرة حيزاً معتبراً على مستوى الصراع الداخلي في العديد من الدول الغربية، ويبدو أن هناك أطرافاً سياسية غربية تحاول أن تستثمر علاقة بعض الأحزاب اليمينية والشعبوية في أوروبا بزعيم الكرملين فلاديمير بوتين، بغرض استخدامها كبعبع أو فزاعة من أجل توجيه الرأي العام الغربي الذي بات أكثر قابلية للتأثر بالخطابات القومية التي تشكك في العولمة وتسعى إلى التركيز أولاً وقبل كل شيء آخر على المصالح الوطنية للدول، من أجل مواجهة الصعوبات الاقتصادية التي تسهم بشكل لافت في دفع قسم كبير من المواطنين نحو الانغلاق وإلى دعم الاتجاهات القومية الأكثر تطرفاً وراديكالية.
بدأ الملف الروسي يأخذ طريقه نحو النقاش السياسي الداخلي للدول الغربية بشكل لم يسبق له مثيل أثناء الحملة الانتخابية الأمريكية الأخيرة، عندما اتهمت إدارة الرئيس أوباما موسكو بالمسؤولية عن تسريب الرسائل الإلكترونية للمرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، واتخذت الاتهامات الأمريكية صبغة أكثر حدة وخطورة تجاه موسكو بعد فوز الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب، حيث أكدت إدارة أوباما أنها تملك أدلة قاطعة تثبت تورط الكرملين في الهجوم الإلكتروني الذي تعرضت له الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
وباستثناء ترامب فإن الأغلبية الساحقة من النخبة السياسية الأمريكية، بمن فيهم قيادات الصف الأول من الحزب الجمهوري، أجمعوا على أن موسكو تدخلت بشكل خطر في الشؤون الداخلية الأمريكية، وستدفع بالتالي ثمناً غالياً على ما اقترفته، حيث قام الرئيس أوباما قبل مغادرته للبيت الأبيض باتخاذ سلسلة من الإجراءات العقابية ضد موسكو من بينها طرد 35 دبلوماسياً روسيا، وأكد في السياق نفسه أن هناك إجراءات أخرى ذات طبيعة سرية واستخباراتية سيجري تطبيقها ضد روسيا.
ويمكن القول إن الحديث عما يسمى بالهجوم الإلكتروني على مستوى الصراع الدولي بين القوى الكبرى ليس وليد اللحظة، ولكنه يعود إلى بدايات مرحلة انتشار تكنولوجيات التواصل الحديثة، حيث عرف العالم في مرحلة بداية التسعينات من القرن الماضي انتشار ما أصبح يعرف بالحرب الإلكترونية، وأشكال القرصنة والجريمة المتصلة بالاستعمال المكثف لتكنولوجيات التواصل الحديثة، وقد اتهمت روسيا بالوقوف خلف الهجوم الإلكتروني الذي تعرضت له أستونيا وجورجيا قبل توغل القوات الروسية داخل الأراضي الجورجية سنة 2008. وتشير تقارير إعلامية إلى أن دولاً مثل كوريا الجنوبية والبرازيل سبق لها هي الأخرى، أن تعرضت لهجمات إلكترونية، حيث أكد الخبراء أن انقطاع الكهرباء الذي عرفته بعض المدن البرازيلية مثل ريو دي جانيرو، كان ناجماً عن تعرضها لهجوم إلكتروني. ويرى هؤلاء الخبراء أنه من الصعوبة بمكان تحديد الجهة أو الجهات المسؤولة عن مثل هذه الهجمات الإلكترونية، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بإثبات تورط جهات رسمية تمتلك قدرات تقنية وتنظيمية هائلة وتعمل في سياق جيواستراتيجي وجيوسياسي شامل ومعقد.
نستطيع أن نستخلص بناء على ما تقدم أن ظاهرة الهجوم الإلكتروني أصبحت تمثل عنصراً أساسياً ومؤثراً في العلاقات الدولية، وقد تتطور لاحقاً لتأخذ أشكالاً أكثر خطورة بالنسبة للاستقرار والسلم الدوليين؛ لكن ما يثير التساؤل والاستغراب في هذه المسألة هو أن تقوم دول مثل الولايات المتحدة، تمثل منبع كل هذه التكنولوجيات الحديثة وتمتلك كل خبايا وأسرار هذه التقنيات المعلوماتية، باتهام غيرها بشن هجمات إلكترونية على مؤسساتها السيادية الشديدة التحصين والتي تمتلك قدرات ردع هائلة في مواجهة مثل هذه الهجمات المفترضة.
وعليه فإن ما يجعل مسألة الهجوم الإلكتروني تطرح تساؤلات جدية بشأن التوظيف السياسي الذي باتت تخضع له، هو انتقال الحديث عن الهجمات الإلكترونية الروسية من الولايات المتحدة الأمريكية، نحو أوروبا الغربية التي تتوجس خيفة من تكرار السيناريو الشعبوي الترامبي في دولها. فقد أشار تقرير للاستخبارات الفرنسية، إلى أن الانتخابات الرئاسية الفرنسية أضحت مهددة بسبب وجود مؤشرات على إمكانية قيام روسيا بشن هجوم إلكتروني من أجل التأثير في نتائج الانتخابات لصالح مرشحة أقصى اليمين مارين لوبان المعروفة بعلاقاتها الجيدة مع زعيم الكرملين، والشيء نفسه يجري تداوله بشأن الانتخابات في ألمانيا، حيث تحدث مدير الاستعلامات الخارجية الألماني عن وجود مؤشرات قوية تفيد احتمال تعرض الانتخابات العامة في ألمانيا لهجوم إلكتروني بهدف التشكيك في مصداقيتها، كما جرى في السياق نفسه الترويج لمعلومات صحفية عن تعرض وزارة الخارجية الإيطالية لهجوم إلكتروني روسي، وهو الأمر الذي اضطرت الناطقة باسم وزارة الخارجية الروسية إلى نفيه.
هناك إذن رغبة واضحة من طرف بعض الدول الغربية من أجل استثمار ورقة الهجوم الإلكتروني الروسي كبعبع وفزاعة من أجل مواجهة قوى اليمين الشعبوي، ويفصح كل ذلك – في زعمنا- عن وجود أزمة حقيقية في منظومة الممارسة الديمقراطية وفي آليات الانتخاب السياسي وممارسة السلطة في الدول الغربية الكبرى. ويمكن القول إننا بتنا قاب قوسين أو أدنى من ميلاد مرحلة جديدة من الممارسة السياسية في الدول العظمى، وفق سيناريوهات يمكنها أن تؤثر بشكل لافت في نسق ومنظومة العلاقات الدولية خلال السنوات القليلة القادمة.