أشفق على أمريكيين كثيرين، بينهم أصدقاء وزملاء دراسة، وبينهم أفراد من عائلتي الصغيرة، أسمعهم يشكون بصوت عال من الصورة الهزلية التي تظهر فيها قيادة الدولة الأعظم منذ أن فاز دونالد ترامب بمنصب رئيسها. كلّهم غاضبون من رئيس لا يرى في ممارسته الكذب ما يؤذيه شخصياً أو يسيء إلى المنصب الذي يحتله. أعرفهم نشأوا في بيئة لا تشجع على الكذب، لأنهم في أغلب الأحوال والمواقع ليسوا في حاجة إلى الكذب. ما لا يحصل عليه الفرد منهم بكفاءته وقدراته الذاتية سوف يحاول أن يحصل عليه بالقانون أو بغيره، ولكن نادراً ما يلجأ للكذب.
نحن هنا نرى الأمر بشكل مختلف. نرى أن أكثر من عرفناهم من رؤساء أمريكا كانوا من الكاذبين. كذبوا في كل تصريح أو قرار يتعلّق بقضية فلسطين، وكذبوا ليحتلوا العراق، وكذبوا ليغزوا ليبيا وليعطلوا تحقيق سلام في سوريا، وكذبوا ليتدخّلوا في مسار ثورة يناير المصرية. كان عذرهم الثابت أن سياستهم الخارجية تخضع لمتطلبات مصالح أمريكا القومية والضغوط الداخلية، ومنها ضغوط الرأي العام والكونغرس. ومع ذلك أجد نفسي متعاطفاً مع الشاكين من الكذب الممنهج الذي تمارسه إدارة الرئيس ترامب . أتعاطف معهم لأن ترامب أساء إلى صورة أمريكا أبلغ إساءة بممارسته الكذب ، وهي الممارسة التي فرضت على سياساته وقراراته التقلّب وأثارت في العالم الخارجي قلقاً، وفي حالات بعينها مثل اليابان والصين وألمانيا و«إسرائيل» دفعت إلى اتخاذ مواقف استنفار وتأهب. لا أنكر أن بعض القلق انتقل ناحيتي وإن لسبب آخر.
بطبيعتي ولمعرفتي بتاريخ الدول الفاشية، أتوجس دائماً الخطر الذي يمكن أن تتسبب فيه تصرفات حكام مغرمين بالغموض والسرية. أراقب بالاهتمام الممكن ما يجري في فرنسا وبولندا والنمسا وألمانيا والمجر، في كل هذه الدول ودول أوروبية أخرى تنتشر تيارات وتقوم أحزاب يقودها نساء أو رجال ديماغوجيون. هؤلاء، مثل دونالد ترامب، يرفعون شعار الدعوة لحماية أقلية أغفلها السابقون، ومستعدون دائماً لإثارة الشعور الوطني يكسبون به دعم المتضررين من النظام الاقتصادي القائم ومن العولمة وتأييد الغاضبين من غزو ثقافات غريبة عن ثقافتهم القومية. خشيتي من هذه الحكومات لها ما يبررها في تاريخ أوروبا وأمريكا اللاتينية وبلادنا العربية.
كاتبة كبيرة كتبت تصف الحال في بلدها الأوروبي، مجتمع يسرح فيه الفساد مدعوماً بالكذب. هنا في بلدي، تقول الكاتبة، يعتقلون المعلومة ويعذّبون الخبر. الحقيقة استبدلوها ببديل جاهز والخبر تغيرت معالمه. لم ينتبهوا إلى أن الغموض والكذب يولّدان الفضول، وأن ضغط الفضول يثير الشائعات، وأن كثرة الشائعات يتبعها كثرة التسريبات التي بدورها تكشف تشققات جدر السلطة، بما يلحق بها من استقالات وتعديلات بين الوزراء وأعمدة الحكم. في رأيها أن السياسيين في بلدها، وبلاد أخرى، يكذبون لأنهم يعدون جماهيرهم بوعود لا يقدرون على تنفيذها. يتعهدون بإعداد المجتمع لتبني الديمقراطية نظاماً للحكم، ولكنهم يفعلون كل ما من شأنه غرس الوقيعة بين الشعب والديمقراطية. لا يحترمون الدستور الذي جاء بالحاكم القوي إلى الحكم في بلدها. التزم الرجل بتمهيد المجتمع ونقله من حظيرة الفاشية التي حكمته عقوداً عدة إلى ساحة الديمقراطية الرحبة. لكنه لم يشجع التمثيل الصادق لفئات المجتمع في مجالس التشريع والمحليات. أخفى الحقائق عن الناس وأبدع في صنع معلومات زائفة. لم يحترم مبدأ توازن السلطات بل أقدم على تنحية قضاة وتشويه سمعة آخرين. لم ينفذ وعده بتدريب الجيل الجديد على احترام حقوق الإنسان والإيمان بالديمقراطية والمشاركة السياسية وأصول العمل المدني والسياسي. ركز اهتمامه على تنشيط الروح القومية لدى الشباب وإثارة شعورهم في حب وطنهم للوقوف في وجه معارضيه السياسيين، الخونة وأعداء الوطن.
الاحتمال ما زال قوياً أن تستقر وتقوى حكومات أوروبا الشعبوية وتقوم فيها حكومات شعبوية جديدة. في حال انتصر هذا الاحتمال لن يوجد من ينكر أن الفضل يعود إلى اثنين: فلاديمير بوتين ودونالد ترامب. لا يخفي أي من الزعيمين تشجيعه ودعمه هذا النوع من الحكومات. بل إن الدور الروسي في وصول ترامب إلى البيت الأبيض ما زال محل تحقيق في الولايات المتحدة، أما الدعم المادي والمعنوي الذي تقدمه موسكو لأحزاب يمينية متطرفة في دول أوروبية فقد أكدته تحقيقات إعلامية متعددة.
احتمال آخر لا يزال قوياً، وهو أن تتصاعد الحرب الدائرة حالياً بين أجهزة الإعلام الأمريكية ونظام الرئيس ترامب. الواضح من وجهة نظري حتى الآن هو أن المعركة لن تحسم قريباً لصالح أحد الطرفين. رأينا كل طرف يحقق مكاسب هائلة ويستعد لمواجهات أعنف. لقد فاجأ ترامب الإعلام الأمريكي بسلاح لم تستعد الصحافة الأمريكية للتعامل معه. فاجأها بالتغريدات التي تنطلق من قلمه بسرعة وكفاءة بندقية سريعة الطلقات. لم تكن الصحافة وغيرها من المؤسسات الإعلامية مؤهلة للتعامل مع هذه السرعة . استطاع ترامب فعلياً إنهاك الصحفيين بحثاً عن الحقيقة وتفنيداً للحقائق البديلة التي يخترعها ترامب وجهازه، ولكنه بهذه الهجمة على الصحافة ربما يكون قد أطلق الفرصة للمؤسسة الإعلامية الأمريكية لتتغير، وإذا لم أكن مبالغاً، ففي ظني أن ثورة جديدة توشك أن تنشب في الساحة الإعلامية الأمريكية وفي العلاقة بين الإعلام والسلطة.
ممارسة الكذب ليست جديدة على السياسيين أو على الصحفيين. جاء وقت كان الكذب وحده يتحمل مسؤولية الشك المتبادل في العلاقات بين الشعوب من ناحية والسياسيين والصحفيين من ناحية أخرى.
تدهور الوضع، فلم يعد الكذب في الرسالتين السياسية والإعلامية في دول كثيرة ممارسة وقتية أو ظرفية، صار هو القاعدة، بدليل أننا نناقش هذه الأيام ظواهر من نوع «الحقيقة البديلة» و«هيمنة الخبر الزائف» وشعارات من نوع «القوة فوق الحق» و«استعادة عظمة الدولة» و«نقاء العنصر الأبيض». هذه وغيرها من علامات عصر إعلامي جديد لم يطرق باباً أو يستأذن.