منذ اليوم الأول لدخول دونالد ترامب البيت الأبيض، رئيساً لأمريكا، إلى اكتمال المئة يوم الأولى له في الحكم، يظل يخيم على إدارته، سؤال عما إذا كانت لديه استراتيجية فعلية ومتكاملة للسياسة الخارجية.
المعروف أن الإدارات السابقة، سواء جمهورية أو ديمقراطية، كانت تأتي إلى السلطة ولديها رؤية استراتيجية محددة. وكان ذلك يتأتى نتيجة الخبرات المتراكمة لدى النخبة التي تشغل أهم المناصب بها، وأغلب أعضائها من خبراء مراكز البحوث Think Tanks، والذين يمثلون التواصل بين الإدارة الجديدة، والإدارة التي رحلت، منهم كبار معاوني الرئيس الجديد الذي اختارهم من هذه المراكز، وهم من ناحية أخرى، الذين ينتجون الأفكار التي توضع في يد المؤسسات السياسية بما فيها البيت الأبيض، حتى من بعد خروجهم من السلطة.
ولهذا توجد استمرارية في الفكر السياسي والاستراتيجي مع التسليم بوجود قدر محسوب من المرونة، يعبر عن تفكير الرئيس الجديد، وتوجهاته الإيديولوجية. وهذا هو العنصر الأول للقول بوجود استراتيجية محددة للإدارة الجديدة.
أما العنصر الثاني، فهو ما يتفق عليه علماء السياسة في أمريكا، من أن هناك ثلاثة شروط لابد من توافرها لوجود الاستراتيجية، ولقابليتها للبقاء، وهى: توافق النخبة، وتوافق الرأي العام، ووضوح كلي لأهداف السياسة الخارجية.
وبالنسبة للعنصر الأول، فقد غاب تماماً مع ابتعاد ترامب عن اختيار معاونين من النخبة السياسية التقليدية، التي تجمعها عادة أفكار متقاربة، فيما يتعلق بأسس السياسة الخارجية. ثم إن فريق ترامب للسياسة الخارجية، مختلف جوهرياً عن أي فريق سبق أن اختاره تسعة من الرؤساء الذين سبقوه، منذ الحرب العالمية الثانية. فهم مختلفون عن أي فريق عمل مع أيزنهاور، وكنيدي، ونيكسون، وجيرالد فورد، وريغان، وبوش الأب، وكلينتون، وبوش الابن، وأوباما. كل هؤلاء كانوا خبراء مختصين في قضايا السياسة الخارجية، وهم الذين يختارون من مراكز البحوث.
والملاحظ أن الذين اختارهم ترامب، هم إمّا من العسكريين الذين ليست لهم خبرات دبلوماسية، أو من رجال الأعمال، وهم ليسوا من أصحاب التوجهات الفكرية، لكنهم أصحاب ممارسات عملية. ثم إن كثيراً منهم لا يعرفون بعضهم البعض، وقد تختلف نظرة كل منهم عن الآخر تجاه العالم.
أما العنصر الثاني، فالمتفق عليه بين كل المتابعين في أمريكا، أن هناك انقساماً واضحاً داخل النخبة، وبين الرأي العام، وغياب تام للتوافق. وبالتالي يصعب في هذه الحالة، أن يتحقق عنصر الوضوح التام للسياسة الخارجية.
ومن المتوقع أن تستمر هذه الحالة طوال المئة يوم الأولى، خاصة مع ظهور مؤشرات من خلال تصريحات ترامب عن قلة اهتمامه بالنظام الدولي الذي أسسته أمريكا لسنوات طويلة، ووجود إشارات عن أن ترامب هو الذي سيدير السياسة الخارجية، حسب ما هو مقتنع به من أفكار، وأن معاونيه، حتى وإن اختلفوا معه في بعض التفاصيل، إلّا أن مهمتهم ستكون وضع أفكاره موضع التنفيذ، على أرض الواقع.
وطبقا لما راح يؤكد عليه أكثر من مرة من أفكار مثل إقامة تحالفات جديدة، مع تعزيز التحالفات القائمة، أو التعاون مع روسيا لمحاربة الإرهاب، فإن وضوح شكل السياسة الخارجية، سيظهر بعد أن يكمل ترامب مرحلة إعادة ترتيب أولويات الأمن القومي للولايات المتحدة، والتي يتصدرها الإرهاب، والقضية الأخرى الملحة لديه، والتي تحدث عنها بعبارات عامة، هي «أمريكا أولاً».
ويرتبط بذلك أسلوبه في الدبلوماسية، حيث ينتظر أن يديرها بالأسلوب المباشر، عن طريق اتصالات مباشرة مع أصدقاء، وحلفاء لأمريكا، سواء كانوا تقليديين، أو أصدقاء وحلفاء جدداً. وأيضاً من خلال لقاءات مع قادة دولهم وجهاً لوجه، وبناء عليه، يمكنه أن يحدد توسيع آفاق علاقاته مع بعضهم، أو تضييقها.
ربما يكون البعض قد وصف السياسة الخارجية لترامب بالغموض، أو بالتشوش، لكن المؤكد أن ظهورها الآن على هذا النحو، هو نتيجة غياب العناصر التي كانت تضمن ما يُسمى بالاستمرارية في السياسة الخارجية. ولهذا لا يتوقع أن يستمر الغموض، أو التشوش، طويلاً.