اخترنا لكنون والقلم

سوريّة وثنائيّة «اليسار» و «اليمين»

هل كان يمكن أن يتّفق أقصى اليسار وأقصى اليمين على موقف واحد موحّد من الحرب الأهليّة الإسبانيّة في أواخر الثلاثينات؟

الجواب طبعاً لا. فالحرب المذكورة كانت، في أحد أبرز معانيها، حرباً بين اليمين واليسار الأوروبيّين. وهذا ما يتعدّى المركزيّة الأوروبيّة وأحداثها الكبرى، كالحرب الأهليّة اليونانيّة مثلاً، أو انشطار ألمانيا ألمانيتين، لينطبق أيضاً على الثورة والنظام الكوبيّين، وعلى الحرب الفيتناميّة في الستينات والنصف الأوّل من السبعينات، كما على الحرب الكونغوليّة بين باتريس لومومبا ومويس تشومبي، كي لا نذكر عدداً لا يُحصى من الأحداث الضخمة التي شهدتها القارّات الخمس.

إذاً، لماذا صحّ ويصحّ اتّفاق أقصى اليمين وأقصى اليسار على موقف واحد موحّد في سوريّة؟

قد يتعلّق الجواب في حدّه الأدنى بسوريّة نفسها، وبالعالم العربيّ استطراداً، لجهة تضاؤل الاهتمام بهما إلاّ بوصفهما موضوعاً للنفوذ الاستراتيجيّ وخزّاناً لبشر قد يفيض نزوحهم على الغرب. لكنّ الجواب أعلاه ينمّ عن حقيقة أخرى، هي أنّ ثنائيّة اليسار واليمين نفسها لم تعد تقبض على الواقع الكونيّ، كما كفّت، في استغراقها القوميّ، عن توفير «برنامج» شامل للإنسانيّة. هكذا غدت الثنائيّة هذه قليلة الحفول بضمّ منطقتنا إلى «الثورة العالميّة» أو إلى «السوق العالميّة»، وصار جلّ المطلوب «كفّ شرّ» المنطقة عن هذه المشاريع العالميّة البعد التي يُطمح إلى إحلالها في مناطق أخرى. لكنّ استثناء كلّ هذه الملايين وكلّ هذه الرقعة الجغرافيّة من عالميّة اليمين واليسار، إنّما يقلّص العالميّة المذكورة ويُنقصها وينمّ عن ضمور طموحاتها. وهذا، بدوره، ما ينمّي العنصر الخرافيّ في تلك الثنائيّة إيّاها.

والخرافيّة، هنا، لا تقتصر على إغفال منطقتنا، بل تجد أيضاً ما يؤكّدها في ذاك الاكتراث القليل الذي ما زالت تمنحها إيّاه: فـ«اليمين» معنيّ بمكافحة الإرهاب ووقف تدفّق اللاجئين، في معزل عن المسائل التي تتسبّب بهاتين الظاهرتين وباستفحالهما. و«اليسار»، من ناحيته، مشغول بمكافحة «الإمبرياليّة وحروبها العدوانيّة»، فيما «الإمبرياليّة» التي تستولي عليها النزعة الانعزاليّة، مستنكفة عن التدخّل. وليس الغزل من طرفي «اليمين» و«اليسار» بروسيا البوتينيّة غير برهان ساطع على غلبة المشكلات الزائفة والحلول الزائفة في الطرفين «اليمينيّ» و«اليساريّ» هذين.

وفي وسع من يبحث عن أسباب داخليّة لهذا التصدّع المزدوج الذي يصيب طرفي الثنائيّة أن يقع على الكثير منها، ابتداء بتحوّلات الخرائط الطبقيّة وليس انتهاء بالوعي الرجعيّ الذي يضرب الطبقة العاملة، فضلاً عن أوهام الثراء السريع والفرديّ التي تغزو الفئات الوسطى بعيداً من أيّ سيرورة وتحوّل مجتمعيّين.

لكنّ ثنائيّة أخرى، في أغلب الظنّ، تتقدّم اليوم للحلول محلّ تلك القديمة. إنّها ثنائيّة الديموقراطيّة والشعبويّة، أي اللعب في الوسط والشدّ يميناً أو يساراً داخل هذا الوسط، مقابل اللعب في الأطراف ومحاولة الانقضاض منها على الوسط، وتالياً على المجتمع في عمومه. وإذا كانت كلّ منهما، الديموقراطيّة والشعبويّة، تتّسع ليسار (ديموقراطيّ أو شعبويّ) كما تتّسع ليمين (ديموقراطيّ أو شعبويّ)، فإنّ تصوّر السياسة يقع في القلب من سجالهما: في الديموقراطيّة تحتلّ المؤسّسات والتسويات موقعاً مركزيّاً هو نفسه الذي تحتلّه، في الشعبويّة، مفاهيم الصراع والعداوة والقوميّة.

فما يعيد الاعتبار إلى السياسة اليوم هو، بالضبط، ما تطرحه الديموقراطيّة في مواجهتها مع الشعبويّة، أي نزع التوتّر النضاليّ في الداخل وتوكيد البُعد الكونيّ في العلاقة بالخارج.

وإذا جاز الترميز والشخصنة، قيل إنّ الوجهين الأبرز للاستقطاب الكونيّ الراهن هما ستيف بانون وأنغيلا مركل: الأوّل، أيديولوجيّ، ترامب و«الرجل القويّ» في إدارته، إنّما يصنّف نفسه «لينينيّاً» يجمعه بالزعيم الروسيّ تحطيم الدولة. لكنّه أيضاً يبدي إعجابه الشديد ببعض منظّري الفاشيّة الأوروبيّة في الثلاثينات، ولا تستهويه في التاريخ إلاّ الحروب والملاحم، ابتداءً بأثينا وإسبارطة. أمّا الثانية، وهي مستشارة ألمانيا المسيحيّة الديموقراطيّة، فإنّما تُعدّ حاليّاً أقوى حصون الديموقراطيّة الليبراليّة في مواجهة المدّ الشعبويّ. وليس من دون دلالة أنّ مسألةً سوريّةً، هي النزوح المتفرّع عن الثورة وعن قمعها، كانت ولا تزال الرائز الإيجابيّ الأوّل لميركل وسياساتها. وليس من دون دلالة أيضاً أنّ بانون هو الكاره الأوّل، بين كارهي إدارة ترامب الكثيرين، للنازحين والمهاجرين وللتعدّد الثقافيّ والإثنيّ.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى