من المبكر أن نحكم على سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب في شكل دقيق في الوقت الحالي. وربما يصلح قرار «حظر دخول الولايات المتحدة الأميركية» نموذجاً لعدم قدرة ترامب على إنفاذ إرادته في شكل كامل، إذ تكفل القضاء الأميركي بإبطال مفعول القرار سريعاً، وأوضح للرئيس الجديد أنه ليس مطلق اليد تماماً كما يتصور. ويمثل حكم القضاء كبحاً للاندفاعة التي اتسمت بها الأيام الأولى لترامب في الرئاسة، وجرس إنذار مبكراً إلى أنه، وإن أبدى عزماً على تنفيذ بعض ما وعد به خلال حملته الانتخابية، يعمل في محيط تحكمه ضوابط ومحددات لا بد من مراعاتها، وأن التعجل في اتخاذ قرارات متشددة قد يكون مردوده سلبياً أكثر مما توقع.
ستلاقي قرارات ترامب وتوجهاته معارضة في ملفات؛ مثل العلاقة بأوروبا، والعلاقة بحلف شمال الأطلسي، إذ طالب ترامب، خلال خطاب له في قاعدة ماكديل الجوية قبل أسبوع، بـ «تسديد كامل اشتراكاتهم، لحلف «الناتو»، التي لم يسددها بعدُ كثير منهم»، بعد أن كان شن عليه هجوماً أعنف. وكذلك في ملف الاتفاقات التجارية التي يعمل ترامب لإلغائها، وكذلك العلاقات مع دول؛ مثل ألمانيا أو فرنسا أو روسيا، التي يثير ما يبدو أنه تقارب معها ومع رئيسها فلاديمير بوتين أسئلة واعتراضات وتحذيرات جدية. ويصدق ذلك على الصين، التي غضبت حين لوحت الولايات المتحدة بتأييد اليابان في نزاعها مع الصين على جزر سينكاكو، واستعدادها للتدخل عسكرياً للدفاع عنها، ثم ما لبث ترامب أن اتصل الجمعة الماضي بالرئيس الصيني ليؤكد التزامه بسياسة «الصين الواحدة» بعد أن كان لمح إلى التخلي عنها في منتصف كانون الأول (ديسمبر) الماضي.
ينطبق الحكم السابق على كثير من الملفات المطروحة على الساحة، لكنه لا ينطبق على الملف الإيراني، الذي يُتوقع أن يتواصل تشدد ترامب في شأنه، ويبدو أن هناك اتفاقاً في أوساط الساسة الأميركيين على ذلك، فلم تُسجَّل اعتراضات ذات بال، أو وجهات نظر تخالف ما يذهب إليه ترامب في تعاطيه مع إيران. وعلى أقل تقدير فستبقى إيران تحت ضغط دائم من جانب ترامب وإدارته، يمكن أن يتصاعد ليبلغ مستويات لا يتوقعها النظام الإيراني حتى الآن. والسبب وراء ذلك هو أن الملفات السابقة جميعها تنطوي على مكاسب محتملة للولايات المتحدة يمكن أن تتأثر، ومصالح يمكن أن تخسرها إذا أصر ترامب على تشدده، وستغلب عليه طبيعته البراغماتية وتقوده إلى مراجعة مواقفه وإيجاد صيغ لإبرام تفاهمات معينة.
ملف إيران ليس كذلك، وهو بوضعه السابق «خسارة صافية» للولايات المتحدة، التي تعرضت لـ «الاستغفال» من جانب إيران خلال فترة رئاسة أوباما، وقدمت على طبق من ذهب اتفاقاً لإيران يحررها من الحصار ومن العقوبات ومن النبذ الأميركي والدولي من دون أن تكسب الولايات المتحدة أي شيء على الإطلاق، فلم يكن لدى إيران ما تناور به أو تضغط من خلاله على الولايات المتحدة، حين قفز أوباما على حجرها في شكل غير مبرر أو مفهوم! وفضلاً عن أن الولايات المتحدة لم تكسب أي شيء، فقد خسرت حلفاءها التاريخيين في الخليج العربي وفي مناطق عربية أخرى، كما خسرت صدقيتها أمام هؤلاء الحلفاء، ولم يعد من السهل الوثوق ثانية بوعود الولايات المتحدة أو التزاماتها، وهو أمر ليس بالهيِّن.
يمكن الاختلاف مع ترامب في بعض توجهاته أو في كثير منها، لكن تحديده لأولوياته كان موفقاً في قضيتين أساسيتين وضعهما في رأس أجندته؛ وهما الحرب بلا هوادة على الإرهاب بكل صوره وأشكاله، وموقفه من إيران. وفي قضية الإرهاب في شكل خاص، يمثل موقف ترامب من تنظيم «الإخوان المسلمين»، والمؤشرات عن إمكان تصنيفه جماعة إرهابية، تطوراً له أهميته، بعد الحظوة التي عوملت بها هذه الجماعة الإرهابية خلال سنوات حكم أوباما، ووصول أشخاص محسوبين عليها أو يعملون لمصلحتها إلى مناصب مهمة، خلال فترتي الرئاسة السابقتين. وهذه بدورها من بين الألغاز الكثيرة التي ارتبطت بالإدارة الأميركية السابقة، والدور المثير للشكوك الذي اضطلعت به خلال فترة حافلة بالاضطرابات والتقلبات في الشرق الأوسط.
وفي القضية الثانية يبدو ترامب واعياً لطبيعة تحركات إيران ودورها في المنطقة، ففي تغريدة له الأسبوع الماضي قال: «إيران تلعب بالنار، ولا تقدر كم كان أوباما لطيفاً معها. أنا لست كذلك». وربما يمر كثير من المحللين على تعبير «اللعب بالنار» ليستخلصوا منه مجرد الرغبة في التصعيد أو التهديد من جانب ترامب، لكن «اللعب بالنار» في الحقيقة توصيف شديد لما تفعله إيران في المنطقة، فهي لا تكف عن إشعال الحرائق حيثما وجدت لها موطئ قدم، وتعمل بكل جهدها على توسيع شقة الحرائق ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وترى في ذلك وسيلة لفرض حضورها ومد نفوذها على وقع الفوضى والدمار.
إيران والإرهاب، بالفعل، هما أخطر ما تواجه المنطقة العربية، وكلا التهديدين يستمد قوته وحضوره من الآخر، إذ تُذكي إيران بسياساتها الطائفية وتغذيتها الميليشيات والأفكار المذهبية المتطرفة تطرفاً آخر مماثلاً. ووجود الطرفين ضمن القائمة التي يستهدفها ترامب قد يكون نقطة إيجابية في مصلحة دول الخليج العربي، التي تواجه هذين الخطرين بحزم ووعي منذ وقت طويل، لأن سياسات أوباما وإدارته منحت إيران والجماعة المتطرفة فرصاً للتمدد تحت غطاء من التجاهل الأميركي، بل التأييد الأميركي الصريح حيناً والضمني أحياناً.
ستحاول إيران تجنب مواجهة الولايات المتحدة، فهي تعرف حدود قوتها. والتصعيد الكلامي والمواقف العنترية مجرد ستائر دخان لتغطية الضعف. وقد توعّد المرشد الأعلى بأن رد بلاده على تهديدات الولايات المتحدة سيكون يوم الجمعة الماضي، ولم يكن هذا الرد سوى تظاهرات تهتف بالموت لأميركا على النحو الذي لم يتغير منذ 38 عاماً. وفي مواجهة «أفعال» أميركية تمثلت مبدئياً بفرض عقوبات سريعة وحازمة، بسبب تجارب صاروخية إيرانية، لم يصدر عن طهران سوى «أقوال» أصبحت محفوظة، وتصريحات تحاول إظهار التماسك وادعاء القوة.
لا يعني ذلك أن الولايات المتحدة ستخوض المواجهة نيابة عن دول الخليج العربية، بل يعني أن شروط المواجهة وظروفها ستكون أفضل بالنسبة إلينا. وربما تجب الإشارة إلى أن هناك ما ينبغي تصحيحه في ذهن الرئيس ترامب، وهو تصوره أن الولايات المتحدة «تحمي» دول الخليج، كما عبّر في وقت سابق، فالحقيقة التي لا مراء فيها أن دول الخليج، وإن كانت تقدر دور الولايات المتحدة في استقرار المنطقة، قادرة تماماً على حماية أمنها، وعلى التنسيق سياسياً وعسكرياً في ما بينها ومع أطراف إقليمية ودولية في الشكل الذي يحقق أهدافها، كما أثبتت سنوات العقد الثاني من القرن الـ21، وكما تأكد مع «عاصفة الحزم» التي استهلت فصلاً جديداً في تاريخ منطقة الخليج والشرق الأوسط يختلف عما سبقه بكثير.
هذه هي الرسالة التي يجب أن يعيها ترامب، ويتعين إيجاد طرق لإيصالها إليه في شكل هادئ، ليعيد التفكير في تصوراته عن «الثمن» الذي يجب أن يُدفع للولايات المتحدة نظير ما يتصوره «حماية» لدول الخليج. ومن بين وسائل إيصال الرسالة تعزيز التقارب الحاصل بين دول مجلس التعاون، وإقرار مزيد من آليات التعاون والتنسيق السياسي والعسكري، من أجل التحدث بصوت واحد قوي. وهناك ضرورة أيضاً لمشاركة الفعاليات غير الرسمية في هذا الجهد، لأن الرأي العام الخليجي الذي يتحرك بوطنية ووعي أصبح قوة مؤثرة يحسب لها ألف حساب.