اخترنا لكنون والقلم

الإمبراطوريات ودماء الشعوب

ماضي المشرق يرسم حاضره. لكل جماعة فيه تاريخها وأساطيرها المقدسة. مقياس القداسة في مدى التوحش والسيطرة وإذلال الآخر. والأمر ليس حكراً على دولة من دون أخرى، أو فئة من دون فئة. ودرجة التوحش تتفاوت بتفاوت الأوهام التي أصبحت واقعاً. لا يذكر المتحاربون من تاريخ الأمويين سوى فتوحاتهم، ومن العباسيين سوى ظلم خلفائهم، وخلافاتهم مع بني أمية. ما أنتجه هذان العهدان على مستوى العلوم والثقافة يأتي في الدرجة العاشرة. لا ذكر للفلسفة الإسلامية، ولا لعلم الكلام والمنطق، ولا للمعتزلة والأشعرية وإخوان الصفا. التفكير ممنوع. الفكر الحر لا يصلح لتجييش الأنصار وعسكرة الصراع. «داعش» نتاج هذا الواقع البائس. ولكل جهة «داعشها»، تستحضره بقوة الماضي المتحكم بسلوك النخبة قبل العامة.

يعود أردوغان إلى الماضي في كل طروحاته. يستحضر الفتوحات العثمانية ليبرر سياساته التوسعية. ويعجب من عدم اقتناع الآخرين بهذا التبرير. قوة الماضي لديه توقع الرعب في قلوب الأعداء، وطائرات الحلف الأطلسي تستكمل المهمة عملياً. يحتقر العراق والعراقيين وسورية والسوريين، كأنه فتح البلدين الآن. قال: «يسألوننا عن أسباب انشغالنا بسورية. الجواب بسيط للغاية، لأننا بلد تأسس على بقية الدولة العلية العثمانية. نحن أحفاد السلاجقة. نحن أحفاد العثمانيين. نحن على امتداد التاريخ أحفاد أجدادنا الذين ناضلوا من أجل الحق والسلام والسعادة والإخوة. إن حزب العدالة والتنمية يحمل في جذوره العميقة روح السلاجقة والعثمانيين». وكان قبل ذلك انتقد اتفاقية لوزان التي رسمت حدود تركيا الحديثة. ولم يفته التذكير بأن تلك الاتفاقية «سلخت» مناطق واسعة من الدولة العثمانية وضمتها إلى اليونان والعراق وسورية. ما يشير إلى أنه على استعداد للمطالبة بإعادة النظر فيها.

على أن الأمر لا يقتصر على أردوغان وماضيه. الدول الأخرى الغارقة في دماء المشرقيين لا تقل تقديساً لماضيها. ماض يدفعها إلى خوض حروب وتدمير بلدان وإبادة شعوب. الحكومات البريطانية المتعاقبة، عمالية كانت أو محافظة، ما زالت تعتقد بأنها تحكم الإمبراطورية التي «لا تغيب عنها الشمس»، ما يعطيها الحق في رسم مصير العالم. لكنها لا تذكر احتلالها ونهبها المستعمرات. بل تلجأ إلى تبرير سياساتها بنشر القيم الديموقراطية وتخليص الشعوب من الحكام المستبدين والديكتاتوريات. فرنسا أيضاً تلعب لعبة القتل ذاتها، باعتبار نظامها نتاج أهم ثورة، ولديها في تاريخها ما يبرر دعمها الثورات الدموية، فالمذابح التي رافقت ثورتها لا تقل هولاً عما يحدث الآن.

أما أميركا التي محت ماضي السكان الأصليين بإبادتهم، فهي في قمة تطور التاريخ الأوروبي، أو خلاصته الأكثر تعقيداً والأقدر على المزج بين أحدث تكنولوجيا وأساطير التوراة. أوصلت إلى البيت الأبيض رئيساً مثل رونالد ريغان الذي كان يؤمن بمعركة «هرمغيدون»، وجورج بوش الابن الذي لا يفارقه الكتاب المقدس، وتعلم نشر الديموقراطية في الشرق الأوسط من وزير في حكومة شارون اسمه ناثان شارانسكي. وجاء الآن دونالد ترامب ليحكم اميركا ويحكم العالم.

هو الماضي يقتل حاضر المشرق لتحيا الإمبراطوريات.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى