ربما يكون دونالد ترامب شخصاً غير عادي نجح رغماً عن أنف الجميع، الدولة بمؤسساتها العميقة والأحزاب التقليدية، في أن يكون رئيساً للولايات المتحدة لمجرد أنه شخصية كارزماتية شعبوية يملك قدرة على السخرية والتشهير بأوضاع الحكم ومؤسساته، ورجل أعمال ناجح في مجال العقارات ليس له أي تجربة سابقة في العمل الحكومي أو في المؤسسة العسكرية الأميركية استطاع بقدراته الخاصة أن يتحول إلى نجم تلفزيوني، يتابع ملايين الأميركيين تصريحاته وتصرفاته ومواقفه خلال حملة انتخابية هي أغرب وأخطر حملات الانتخابات الرئاسية في تاريخ الولايات المتحدة.
لكن الأمر الذي لا شك فيه أن ترامب رغم تفرده الشديد هو جزء من ظاهرة عريضة تجتاح أوروبا والولايات المتحدة في صورة حركة تمرد شعبوي تخرج عن كل الأطر السياسية التقليدية، تطالب بعودة الحكم إلى الشعوب واستنقاذ الدولة الأميركية من أيدي أقليات تحتكر السلطة باسم أحزاب سياسية تعمل لحساب مصالحها الخاصة بأكثر من أن تكون تعبيراً عن إرادات الشعوب التي جرى تهميش مصالحها لحساب كيانات ومؤسسات ورؤى، تخدم مصالح العولمة التي تحولت إلى نظام شمولي يفرض نفسه عنوة، وتنتصر لحرية التجارة المطلقة وإسقاط أية قيود تحمي الاقتصادات الوطنية، وتتجاوز كل الموانع أمام طوفان الهجرة القادمة من الجنوب التي تزاحم الوطنيين على فرص العمل وتهدد هوية الغرب!
وما يزيد من خطورة حركات التمرد الشعبي الواسع التي تجتاح أوروبا الآن أن أحزابها تشكل الأغلبية الحاكمة في ست دول أوروبية، كما تشارك أحزاب أخرى السلطة في ثلاث دول غيرها، فضلاً عن اعتقادها الراسخ بأن الشعبوية تشكل أيديولوجية العصر القادم لأنها تصحح مسار سلطة الحكم وتعيده إلى الشعوب، وتنهي احتكار الأقلية للسلطة من خلال أحزاب تختلف يميناً أو يساراً لكنها لا تعبر عن إرادات الشعوب.
ومن ثم يصبح السؤال المهم الآن، ما هو مستقبل هذه الحركات الشعبوية، التي أحدثت زلزالاً خطيراً في بريطانيا والولايات المتحدة لا تزال توابعه تتوالى بصورة يصعب تجاهلها، ولعل أبرزها نجاح هذه الحركات في أن تصبح مركز الثقل في السياسة الأوروبية رغم عمرها القصير، إضافة إلى الفرص المتزايدة لنجاح مارين لوبان الابنة الصغرى لجان ماري لوبان مؤسس الحزب اليميني الفرنسي (الجبهة الوطنية) في انتخابات الرئاسة الفرنسية، وارتفاع شعبيتها المتزايد إلى حد أن أصوات المؤيدين لها تربو الآن على ضعف أصوات المؤيدين لأي من مرشحي اليسار الفرنسي بمن في ذلك الرئيس هولاند.
وكما تعارض الأيديولوجيا الجديدة لهذه الحركات الشعبوية الهجرة إلى حد دفع الرئيس الأميركي الجديد ترامب إلى أن تكون أبرز نقاط برنامجه هو بناء سور شاهق حول حدود المكسيك يمنع الهجرة إلى الولايات المتحدة الذي وقع قراره قبل أيام، وترفض هذه الأيديولوجيا الجديدة أفكار العولمة بدعوى أنها تحولت إلى نظام شمولي يفرض مطالبه على إرادات الدول والشعوب، وأدى إلى إضعاف قدرة الاقتصادات الوطنية على المنافسة في السوق العالمية بعد أن تم تجريدها من قدرتها على حماية مصالحها الوطنية، وأسقطت كل القيود التي تضبط حركة التجارة الدولية وتحول دون انتشار آثارها السلبية على عديد من المجتمعات الأوروبية، التي تشكو الآن ارتفاع نسب البطالة لأن عدداً من الصناعات الوطنية فككت مصانعها أو هاجرت إلى بلد آخر وراء أسعار العمالة الرخيصة، فضلاً عن أن العولمة تشكل تهديداً خطيراً لثقافة الأوطان وهوياتها.
ويزيد من عمق المشكلة إحساس الشعوب الأوروبية بأن أنظمة الحكم تصادر حق الشعوب في إصلاح العولمة والحد من أخطار الهجرة، وعندما رفض الفرنسيون عام 2005 دستور الاتحاد الأوروبي الموحد في استفتاء عام، قامت أحزاب اليمين واليسار الأوروبي مجتمعة بفرضه عنوة على الشعب الفرنسي، وصادرت حق الفرنسيين في إصلاح أخطاء العولمة والهجرة والعملة الموحدة وحرية التجارة المطلقة متناسية حق الشعوب في احترام إرادتها وقدرتها على أن تفرض ما تريد.. وربما يكون ذلك هو المغزى الحقيقي من وراء تصويت البريطانيين بأغلبية ساحقة لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي رغماً عن إرادة الحكومة البريطانية ومعارضة الأحزاب التقليدية يمينها ويسارها على حد سواء، لأن البريطانيين رأوا في سيطرة الاتحاد الأوروبي على مصائرهم تكراراً لسيطرة الاتحاد السوفييتي على مصائر شعوب عدة عانت من غياب احترام إراداتها السياسية وراء أسوار الاتحاد السوفييتي.
والشعبوية تعني معاني كثيرة لمجموعات عدة من الناس تتوافق رؤاهم على معاداة الأقليات التي تحكم الأحزاب التقليدية، وتركز شكوكها على ما اصطلح البعض على تسميته بـ«التيار الرئيسي للرأي العام» الذي تحتكر باسمه هذه الأقليات الحزبية الحديث عن الدولة والمصلحة العامة، كما تعتبر الشعبوية نفسها صوت المهمشين والمنسيين من الناس العاديين، وغالباً ما تتصور أنها طراز مختلف من الوطنية يؤمن بأن كل ما يصدر عن النخبة الحاكمة خاطئ وكاذب، وما يصدر عن جموع الشعب صحيح مئة في المئة.
وبرغم أن الحركات الشعبوية لها جذورها القديمة في المجتمعات الأوروبية التي تعود إلى ستينيات القرن الماضي، إلا أن التغييرات الجذرية التي طرأت على أوضاع الأمم والشعوب الأوروبية خلال العقود الأخيرة أتاحت الفرصة لهذه الحركات والأحزاب الشعبوية أن تنمو وتنتشر وتصبح مركز النشاط السياسي في معظم الدول الأوروبية بسبب الآثار السلبية للعولمة، وغلبة البيروقراطية المتمثلة في الكيانات والمؤسسات السياسية التي خلقتها العولمة، ابتداءً من الاتحاد الأوروبي إلى كل الأحزاب التقليدية، يميناً ويساراً، التي فقدت جمهورها وضيعت التمايز بينها، لكن العنصر الحاسم والمهم في انتشار الشعبوية يكمن في المخاوف المتزايدة التي طغت على المجتمعات الأوروبية نتيجة الهجرة من الجنوب إلى الشمال بسبب الحربين العراقية والسورية، لأن أفواج المهاجرين خاصة الذين جاؤوا من بلدان عربية وإسلامية حملت معها مخاوف متزايدة من انتشار أعمال العنف والإرهاب، وتضييق نطاق فرص العمل.. وبالطبع فإن تواطؤ أصحاب الأعمال خاصة المتوسطة والصغيرة أسهم في زيادة الاعتماد على هذه الأيدي الرخيصة الأجر.