حرص الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب خلال حفل تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة على تأكيد التزاماته التي سبق أن تعهد بها في «خطاب الانتصار»، عقب إعلان فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهي الالتزامات نفسها التي وعد بها طوال حملته الانتخابية وفي مقدمتها شعاره: «سوف نجعل أمريكا عظيمة مجدداً». وقتها فرض سؤال مهم نفسه هو: هل يستطيع؟
الدافع إلى طرح هذا السؤال إدراك كثير من الدارسين والخبراء لحال الولايات المتحدة أن هذا الشعار، رغم أنه شعار ملهم، إلا أنه جاء خارج زمانه، لأن الولايات المتحدة دخلت فعلاً، باعتراف أبرز الخبراء الأمريكيين، مرحلة الأفول، خصوصاً منذ الأزمة الاقتصادية الهائلة، وليس الأزمة المالية فقط، التي هزت النظام الرأسمالي في الولايات المتحدة من جذوره، وربما تكون قد وضعت فعلاً نهايته، وباتت تفرض التجديد في هذا النظام، من منظور «حتمية تدخل الدولة في الاقتصاد»، إذ لم يعد مقبولاً، أو ممكناً أن يبقى دور الدولة في الاقتصاد هامشياً، ولم يبق سوى الاتفاق فقط على حدود تدخل الدولة في الاقتصاد لإنقاذ النظام الرأسمالي من السقوط.
لم يكن إدراك هذه الحقيقة هو السبب الوحيد لاستبعاد فرص نجاح ترامب في تحقيق شعاره الأثير إلى قلبه، الذي أعاد التأكيد عليه في خطاب التنصيب الدستوري، لكن كانت هناك أسباب أخرى لا تقل أهمية، أبرزها أولاً إصراره على الدخول في صدام مع المؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة، وتبنيه لغة خطابية وصفت بـ «الشعبوية»، أي العداء للنخبة الحاكمة لدرجة الانقلاب عليها. وثانياً إعلان انحيازه للشعب وتبني السياسات التي سوف تحقق ازدهاره، مثل هذا الانحياز سوف يكلفه الدخول في صدامات مباشرة مع النظام الرأسمالي نفسه، ومع الالتزامات الأمريكية مع الشركاء في الخارج، وفي الحالتين قد لا يستطيع تحقيق نجاحات ملموسة في وعد «جعل أمريكا عظيمة مجدداً».
صدام مع النخبة الحاكمة ومؤسساتها. وانحياز للشعب ومغازلته. هذا ما كرره أمام الحضور في احتفال أداء القسم أمام رموز النخبة الأمريكية الحاكمة. فقد استهدف ترامب مؤسسة الحكم وهذه الرموز بانتقادات مريرة لا تنطلي عليه عندما قال: «الاحتفال اليوم له معنى خاص، لأن ما يحصل في هذا الاحتفال ليس انتقالاً للسلطة من إدارة لأخرى، أو من حزب لآخر، ما يحصل هو أننا ننقل السلطة من واشنطن دي سي (العاصمة) إليكم أيها الشعب». لم يكتف بذلك لكنه أضاف ضمن خطاب مفعم بمفردات الصراع الطبقي والسياسي «خلال زمن طال كثيراً ظلت جماعة صغيرة في عاصمة دولتنا تقطف خيرات الحكومة، والشعب يتحمل تكاليف ذلك. واشنطن تزدهر والشعب لا يشارك في ثروتها.. المؤسسة حمت نفسها، وليس مواطني بلدنا».
واضح أن ترامب كان يخاطب الملايين التي صوتت له، سواء من صوتوا له على أسس طبقية، وخاصة العمال الذين فقدوا وظائفهم، والطبقة الوسطى التي افتقرت بسبب سياسات العولمة، التي أدت إلى نزوح صناعات أمريكية كثيرة إلى خارج الولايات المتحدة، أو الملايين التي صوتت له على أسس عنصرية ضد المهاجرين الأجانب الذين اتهموهم باقتناص فرص علمهم داخل بلادهم.
فأغلب الذين صوتوا له لم يصوتوا له باعتباره مرشح الحزب الجمهوري، بل لأنه ضد الحزب الجمهوري، وضد كل من ترشحوا باسم هذا الحزب. اختاروا ترامب من بين 16 مرشحاً جمهورياً يمثلون في نظر هؤلاء الناخبين مؤسسة الحكم التي باتت مرفوضة. معظم هؤلاء الناخبين كانوا من الطبقة العاملة، ومن ملايين الناخبين غير الجامعيين. كل هؤلاء تمردوا على مؤسسة الحكم، وعلى أحزابها، لأن سياسات هذه المؤسسة أفقرتهم وجعلتهم فريسة للبطالة القاسية.
فهم ترامب، وفقاً لما كتبه «ستيوارت باتريك» في «مجلس العلاقات الخارجية» أن هناك عدداً متنامياً من الأمريكيين الذين لا يثقون بالعولمة، والقلقين من الالتزامات الأمريكية في الخارج، لذلك ركز على خطاب يروج لمقولات من نوع «السعي من أجل ولايات متحدة أكثر انفصالاً عن العالم وأكثر اهتماماً بمصالحها»، ومن هنا يواجه ترامب التحدي المزدوج، فهو من خلال هذه السياسة سيأخذ الولايات المتحدة بعيداً عن قيادة «العالم الحر»، ثم أنه سيدخل في صدام مع «الليبرالية» داخل الولايات المتحدة وخارجها كتيار سياسي وكمؤسسات حكم سياسية، في الوقت الذي اختار فيه فريقه الحاكم من وزراء وكبار مسؤولين من طبقة «أغنى الأغنياء» التي يزعم أنه يحاربها والمؤسسات التي دخل في عداء معها. وهو في محاولته للحد من المواجهة مع هؤلاء اتخذ أول قراراته بإلغاء سياسة الضمان الصحي للرئيس أوباما المعروف بـ «أوباما كير» الذي كان يوفر فرص العلاج المجاني للفقراء الذين يزعم الدفاع عن مصالحهم، ومن ثم فإنه سيكون حتماً أمام أحد خيارين؛ إما العودة للانحياز إلى المؤسسة الحاكمة والدخول في صدام مع الملايين التي وعدها بالانتصار لها، وإما الاستمرار في خطاب «شعبوي» من دون نجاحات ملموسة تعجل بسقوطه شعبياً وسياسياً.