الأمريكيون الغاضبون من تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية الأخيرة في بلادهم، يتناسون حقيقة تاريخية ثابتة وهي أن الولايات المتحدة كانت أول من اخترع وشن حروب الانتخابات في العالم، وأن للمخابرات والأجهزة الحكومية الأمريكية تاريخاً طويلاً في إدارة عمليات منظمة للتأثير في الرأي العام، ومن ثمّ نتائج الانتخابات، في عشرات الدول بما فيها روسيا نفسها.
ما فعله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الواقع ليس إلا انتقاماً متوقعاً رداً على تدخلات سابقة لواشنطن؛ أي أنه رد فعل مساوٍ في القوة ومضاد في الاتجاه، كما تنص القاعدة الطبيعية تماماً.
يعلم بوتين القادم من عالم المخابرات الكثير عن الدعم المالي الذي قدمته واشنطن للمظاهرات، التي اندلعت في موسكو قبل وبعد الانتخابات البرلمانية عام 2011. وهناك سابقة أكثر خطورة يعتبرها الروس طعنة في كبريائهم الوطنية، عندما تدخلت الحكومة الأمريكية لدعم الرئيس الروسي الراحل بوريس يلتسين، وتمكينه من الاحتفاظ بالسلطة بصورة اعتبرها كثير من الروس غير دستورية. ثم مساعدته في كسب انتخابات 1996 التي لم تعترف بها المعارضة.
في يوليو من ذلك العام، نشرت صحفية «لوس أنجلوس تايمز» الأمريكية تقريراً كشفت فيه عن أن فريقاً أمريكياً من خبراء الإعلام والسياسة سافر إلى موسكو، وأقام سراً في أحد فنادقها لإدارة الحملة الانتخابية ليلتسين. ونقلت الصحيفة عن أحد هؤلاء الخبراء أنهم كانوا يتعاملون مباشرة مع ابنة يلتسين ومستشارته السياسية في الوقت نفسه.
الأمر نفسه فعلته واشنطن في العديد من الدول الحليفة لروسيا، ودورها معروف في دعم ما سُمّي بالثورات الملونة في الجمهوريات السوفييتية السابقة: أوكرانيا وجورجيا وقرغيزستان. وتتهمها موسكو بتدبير الاحتجاجات الشعبية التي انتهت بالإطاحة بالرئيس الأوكراني الموالي لها في 2014.
ويحدد الباحث الأمريكي ستيفن كينزر عام 1898 كبداية لتاريخ التدخلات الأمريكية في انتخابات الدول. وكانت كوبا هي مسرح العمليات الأول في هذه اللعبة الخبيثة التي لم تتوقف حتى الآن. بعد ذلك بعامين ضمت الولايات المتحدة هاواي، وأسست نظاماً انتخابياً حرمت بمقتضاه معظم السكان الأصليين من الاقتراع، وفرضت المرشحين الموالين لها فقط.
ثم امتد التدخل الأمريكي إلى أوروبا وكانت إيطاليا الوجهة الأولى؛ ففي عام 1948، وفي ذروة المدّ الشيوعي أشرفت المخابرات المركزية الأمريكية على عملية معقدة للتأثير في نتيجة الانتخابات البرلمانية، وشملت الخطط حث الأمريكيين من أصل إيطالي على إرسال خطابات لأقاربهم لتحذيرهم من قطع المساعدات الأمريكية، إذا فاز خصوم واشنطن.
فتح النجاح الباهر لهذه العملية شهية واشنطن لتدخلات كثيرة مماثلة، شملت فيتنام الجنوبية عام 1953، حيث دفعت بمرشح تابع لها إلى منصب الرئاسة، ثم في تشيلي 1964. وبفضل المساعدات المالية السخية وشراء الإعلام، نجحت أمريكا في تلويث المعارضين أو تهميشهم وبالتالي فوز مرشحيها المفضلين في هذه الدول. أما عندما كانت جهودها تتعثر أو تفشل، فلم تكن تتردد في استخدام القوة وحتى الغزو العسكري «لإصلاح أخطاء الناخبين» على نحو ما حدث في الدومينكان 1965.
ويحفل التاريخ الأمريكي بعشرات المحاولات الناجحة والفاشلة لتغيير أنظمة الحكم الأجنبية بالقوة. وكان الفناء الخلفي للولايات المتحدة؛ أي أمريكا اللاتينية، هو مسرح العمليات الأبرز لتنفيذ هذه المحاولات طوال حقبة الحرب الباردة. ولم يكن الشرق الأوسط بدوره بعيداً عن هذا النشاط الأمريكي كما حدث في العراق وليبيا، وهو ما كاد يتكرر في سوريا لولا تدخل روسيا عسكرياً لإنقاذ حليفها الوحيد المتبقي في المنطقة.
لم يفعل بوتين سوى الاحتيال على واشنطن، لكي تتجرع من نفس الكأس التي ذاق الروس مع غيرهم من الشعوب مرارتها على أيدي الأمريكيين.