جاء مؤتمر باريس للشرق الأوسط، بمثابة محاولة دولية جديدة لتحريك المياه الراكدة في مفاوضات الشرق الأوسط وتسوية الصراع العربي – الإسرائيلي، وأياً كانت الظروف والتوجهات التي عقد في ظلها المؤتمر.
إلا أن المشاركة الدولية الكبيرة، منحته بالتأكيد أهمية كبرى، خاصة بعدما تزامن مع صدور القرار المهم لمجلس الأمن الدولي بحظر الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومن الأهمية بمكان، الإشارة إلى أنه مثل محاولة للتأكيد على الثوابت، كما مثل أيضاً محاولة أخرى جادة لإعادة الاعتبار للقانون الدولي، الذي أهدرته إسرائيل على نحو مسف، يهدد الاستقرار الدولي والأمن العالمي والإقليمي.
من المؤكد أنه لن يتم إعادة الاعتبار بشكل سليم للقانون الدولي، في غيبة رادع حقيقي يلزم إسرائيل العودة إلى جادة الصواب، واحترام القرارات الدولية، خاصة تلك الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة وهيئاتها المختلفة، سواء كانت الجمعية العامة أو مجلس الأمن أو منظمة «يونسكو».
لا معني لأن توافق أو توقع 70 دولة، تشكل غالبية المجتمع الدولي، على عدد من القرارات المؤثرة التي تهم الأمن والسلم الدوليين، ربما يكون أهمها الإسراع بقيام الدولة الفلسطينية والاعتراف بها دولة مستقلة في إطار حدود 1967، وفي سياق حل الدولتين، ثم تكون النتيجة أن تضرب إسرائيل بعرض الحائط كل هذه القرارات، وتمتنع عن تنفيذ أي منها.
إذا كانت إسرائيل تصر على إفشال حل الدولتين، والحيلولة دون قيام دولة فلسطينية مستقلة إلى جوار دولة إسرائيل، فإن الحل الصحيح يكمن في دعوة أعضاء المجتمع الدولي إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية، التي حظيت حتى الآن باعتراف 133 دولة، خاصة أن الفلسطينيين قدموا قبل عدة سنوات، اعترافاً واضحاً بالدولة الإسرائيلية، وتحديداً منذ إبرام اتفاقات أوسلو مطلع تسعينيات القرن الماضي.
يزيد من ضرورة هذه الخطوة، على سبيل المثال لا الحصر، إصرار نيفتالي بينت وزير التعليم ورئيس حزب (إسرائيل بيتنا)، وأحد كبار الصقور في حكومة إسرائيل، على التقدم إلى الكنيست الإسرائيلي قبل نهاية هذا الشهر، بمشروع قرار بضم مستوطنة معاليه ادوميم، التي تحاصر القدس الشرقية، إلى إسرائيل.
إضافة إلى رغبة رئيس وزرائه بنيامين نتنياهو، في إضفاء الشرعية القانونية على البؤر الاستيطانية المائة التي أقيمت على أراضي الأسر الفلسطينية، ويرفض القانون الإسرائيلي الاعتراف بها، يشجعهما على ذلك، اعتقاد راسخ بأن الرئيس الأميركي الجديد، الذي سيدخل البيت الأبيض بعد ساعات، دونالد ترامب، سوف ينتصر لرغبة صقور إسرائيل في ضم الكتل الاستيطانية الكبرى في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وربما ينجح نتنياهو وصقوره في المرحلة المقبلة، في حصار قرار مجلس الأمن الذي أدان المستوطنات، حتى تصفيته أو إلغائه، كما حدث قبل عدة سنوات، عندما وجد مجلس الأمن نفسه مضطراً، تحت ضغوط الأميركيين، إلى إلغاء قرار يعتبر الصهيونية حركة عنصرية، فضلاً عن أن ترامب، ينوي الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل، وثمة ما يؤكد أنه جاد في نقل السفارة الأميركية إلى القدس الشرقية.
ويبذل صقور الليكود، غاية جهودهم لدفع الرئيس الأميركي الجديد، لاتخاذ هذه الخطوات في أسرع وقت ممكن، دون اعتبار لقوى عديدة مؤثرة داخل الولايات المتحدة، تحذر ترامب من خطورة هذه السياسات، التي يمكن أن تهدد أمن الشرق الأوسط واستقراره.
وتؤدي إلى المزيد من العنف، وتفسد علاقاته بالدول العربية، ودون اعتبار لحجم الخلاف الذي يتسع بين رؤية الإدارة الأميركية الجديدة لطبيعة الأزمة، ورؤية الأوروبيين الذين لا يمانعون في اتخاذ قرارات مهمة تساند إعلان الدولة الفلسطينية.
وتحض دول العالم جميعاً على الاعتراف بها على نحو فوري. فضلاً عن أن الفترة الأولى من حكم الرئيس ترامب، سوف تعاني كثيراً من عدم الاستقرار وغياب الوضوح، بسبب تناقض كثير من مواقفه خلال حملته الانتخابية، مع مصالح الولايات المتحدة في بقاع كثيرة من العالم.
إضافة إلى الخلافات الأساسية التي تباعد بين رؤى الرئيس ترامب، ورؤى عدد مهم من أركان حكمه، خاصة وزير الدفاع ومدير المخابرات المركزية ووزير الخارجية، الذين يرون أن الروس لا يزالون يشكلون التهديد الأول، لا من الولايات المتحدة، عكس ما يراه الرئيس ترامب، كما يرون ضرورة الحفاظ على الاتفاق النووي الذي وقعته واشنطن وطهران، وينصحون بعدم التسرع في نقل السفارة الأميركية إلى القدس الشرقية.
لكن الأخطر من ذلك كله، أن رفض صقور إسرائيل لقيام الدولة الفلسطينية إلى جوار دولة إسرائيل، والإصرار على ضم 60 % من أراضي الضفة، ووجود ما يقرب من 2.8 مليون فلسطيني داخل إسرائيل كمواطنين من الدرجة الثانية، لا يتمتعون بحقوقهم السياسية، سوف يؤدي إلى قيام دولة عنصرية، تقوم على القهر، تنسف فكرة الدولة اليهودية.
وتفسد نظامها الديمقراطي، وتكرر من جديد مأساة جنوب أفريقيا، التي انتهت بانتصار الأغلبية السوداء لحقوق المواطنة، لينتقل الحكم إلى الأغلبية على حساب أقلية بيضاء، مارست كل صور القهر، كي تكبح طموحات الأغلبية، لكنها منيت بالفشل الذريع، وهو المصير ذاته الذي ينتظر إسرائيل، طال الزمن أو قصر، بسبب إصرار صقورها على رفض قيام الدولة الفلسطينية!