نون والقلم

عن الرسائل المتطايرة بيـن طهران والريـاض

رسائل طهران للرياض لم تنقطع، وهي تكثفت مؤخراً … آخرها ورد من «دافوس» وعلى لسان وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، وقبلها من العاصمة الإيرانية وعلى لسان الرئيس حسن روحاني … رسائل تدعو للتعاون بدل التصارع، والتوافق بدل التضارب… بيد أن هذه الرسائل جميعها، تستطبن أو بالأحرى «تستظهر» شرطاً واحداً: على السعودية أن تغير في مواقفها وسلوكها وسياساتها حيال بعض ملفات المنطقة، لكي يصبح التعاون ممكناً: وقف حربها على اليمن وتدخلها في البحرين والكف عن دعم الجماعات الإرهابية.

في المقابل، لا تكف السعودية عن القول بالحاجة لتصحيح العلاقات مع جارتها على الضفة الشرقية من الخليج العربي/ الفارسي، ولكنها تضع في المقابل شرطاً مماثلاً للشرط الإيراني: على طهران أن تبدل سياساتها في الإقليم، وأن تكف عن تدخلها في اليمن والبحرين وسوريا والعراق ولبنان، وأن تتوقف عن دعم المليشيات «المتمردة» والجماعات الإرهابية.

روحاني كشف في حديثه مع الصحفيين، بمناسبة مرور عام على توقيع اتفاق فيينا مع مجموعة (5+1)، والذي عارضته السعودية بقوة في حينها، وسعت في منعه وإسقاطه … روحاني كشف عن مساعي حميدة وجهود وساطة عرضت عشر دول على البلدين القيام بها من دون جدوى … الفجوة بين الطرفين ما زالت واسعة، وحروب الوكالة ما زالت وسيلتهما لتسوية الخلافات وردم الفجوات.

إن كان ثمة من مغزى لتكاثر الرسائل المتبادلة بين دولتي المركز «السني» و«الشيعي» في المنطقة، فهو أنهما باتتا تشعران بعبثية الحرب المفتوحة بينهما، وما يتسبب به استمرارها من استنزاف للموارد البشرية والمالية والاقتصادية، وما يفتحه من أبواب ستتسلل عبرها، مختلف مهددات الأمن الوطني لكل منهما، بدءاً بالتهديد الإرهابي، مروراً بتهديدات الهوية والانقسام والتقسيم تبعاً لخطوط الطوائف والمذاهب والأقوام، وصولاً لتفاقم التهديد الاقتصادي – الاجتماعي، الذي يتزايد ضغطه تحت تأثر تآكل أسعار النفط والغاز، وتبدّل أحوال سوق الطاقة العالمي.

وربما لهذا السبب بالذات، لم تكن صدفة أبداً، أن يكون أول اتفاق بين البلدين، قد تمحور حول تخفيض سقف إنتاج منظمة أوبك، ومحاولة تثبيت سعر برميل النفط بين 60 – 65 دولارا … وهو أول اتفاق بين البلدين في العشرية الأخيرة، أبرم بعد طول تردد وتبرم، ولكنه أبرم تحت ضغط الحاجة لوقف نزيف الموارد الذي يتعرض له البلدان النفطيان.

ولأن «السياسة تعبير مكثف عن الاقتصاد» كما يقال، فليس مستبعداً أن يكون «إنقاذ سعر النفط وتحديد سقف إنتاجه» بوابة لبحث لاحق في حلول سياسية لأزمات المنطقة المختلفة… فالبلدان اللذان آثرا تسوية الحساب بينهما عن طريق «حروب الوكالة»، وربما حتى آخر يمني وسوري وعراقي، يجدان نفسيهما اليوم في حالة لا يحسدان عليها، وقد تتبلور القناعة لدى كل من قيادتيهما، ودائماً تحت ضغط الاستنزاف والنزيف، بحاجة لكسر الجليد والشروع في حوار وتفاوض، ينتهي إلى حلول وتسويات سياسية، وربما إلى أشكال من التعاون في ميادين ذات اهتمام مشترك لكل منهما.

لا شك أن إيران سجلت في السنوات العشر الأخيرة، سلسلة من النجاحات المتلاحقة في سوريا ولبنان والعراق وصولاً إلى اليمن … وتحولت من «مشروع دولة نووية» إلى دولة إقليمية هامة، يكاد حضورها لا يستثني ساحة من ساحات المشرق والجزيرة العربية … بيد أن لهذا الدور، توسيعه وإدامته، كلفة باهظة على بلد يعاني اقتصاده من سنوات الحصار العجاف، وتتطلع أجياله الصاعدة للعيش كسائر البشر، في كنف دولة وليس في ظل «ثورة مستمرة» لعشريات أربع من السنين.

ثم أن إيران تدرك تمام الإدراك، أن ثمة حدوداً لدورها الإقليمي، تمليه الجغرافيا وخطوط المذاهب وأوزانها وهواجس التاريخ وحساسيته، وأنها مهما عظم دورها، ستظل في أحسن السيناريوهات «زعيمة أقلوية» تسبح في بحر سني متلاطم الأمواج … سيما وأنها تبني نفوذها على قاعدة أنها «دولة المركز الشيعي» في العالم، والمذهبية أداة رئيسة من أدوات سياساتها الخارجية، وأحد «أحصنة طروادة» لمد نفوذها الإقليمي المتعاظم.

والسعودية في المقابل، لا تعيش أحسن أحوالها … هبوط أسعار النفط وتآكل مكانته، انعكسا هبوطاً وتآكلاً في مكانة المملكة ودورها الإقليميين… وزير ماليتها يحذر من سيناريو إفلاس الصناديق السيادية إن استمر الحال على هذا المنوال لخمس سنوات قادمة … لا دور جدياً لها في العراق، ونفوذها في سوريا جرى تحييره لصالح تركيا، المنافس الأكبر على زعامة العالم السني، وفي اليمن تعاني مأزقاً وتنتظر «مخرجاً مشرفاً» لا أكثر ولا أقل، سيما وأن مبادرتي كيري – ولد الشيخ، جاءت بخلاف ما اشتهته سفن «عاصفة الحزم» قبل أقل من عامين اثنين … كما أن المملكة التي تشبه إيران في كونها «دولة المركز السنّي»، تعتمد «المذهبية» في طبعتها السلفية / الوهابية، وعائدات النفط، بوصفهما أهم أداتين في سياستها الخارجية، الأولى باتت تخلق متاعب للمملكة في ظل تنامي الإحساس العالمي بخطر هذه المدارس المتطرفة، والثانية بدأت تضعف مع كل تراجع في سعر برميل النفط.

والدولتان، جربتا خيار «الحسم العسكري» في مختلف ساحات «حروب الوكالة» لتصطدم كل واحدة منهما بجدار صلب ومسدود … لا الأسد سقط في سوريا ولا المعارضة استؤصلت … ولا الحوثي نجح في السيطرة على كل اليمن، ولا هادي قادر على تحقيق اختراق عسكري … ولبنان ظل لأزيد من عامين من دون رئيس، إلى أن أشعلت العاصمتان المتحاربتان، الضوء الأخضر لإتمام صفقة «عون/ الحريري» في هذا البلد المنكوب بصراعاته الداخلية وصراعات الآخرين فيه وعليه.

مع ذلك، وبرغم الظروف الصعبة المترتبة على استنزاف العاصمتين وإنهاكهما في مسلسل «حروب الوكالة»، إلا أن الطريق للتعاون و«التسويات الكبرى» ما زال معبداً بالعراقيل والعقبات، بل ومفخخا بالألغام … وقد يسقط كثير من اليمنيين والسوريين والعراقيين والبحرينيين صرعى وجرحى، قبل أن تنضج شروط الانتقال من الحرب الباردة والساخنة إلى فضاءات الأمن والتعاون والسلم الإقليمي … لكن ما نشهده اليوم، من كثافة في الرسائل المتبادلة، يشي بأن «الطبخة» أوشكت أن تنضج، أو هي في طريقها إلى ذلك.

أخبار ذات صلة

Check Also
Close
Back to top button