رغم حرص تنظيم «الدولة الإسلامية» بزعامة أبو بكر البغدادي على إظهار الطاعة والولاء والتقدير لرموز تنظيم «القاعدة»، وبخاصة أيمن الظواهري، وقبوله التحكيم في العديد من القضايا الخلافية في الساحة العراقية والسورية، إلا أنه كان من الواضح أن ممارسات قيادات تنظيم «الدولة» غلب عليها «التقية» السياسية تجنباً لصدام مبكر مع التنظيم الأكثر شعبية (تنظيم القاعدة) بين المقاتلين المتشددين.
مقتل بن لادن وغياب الكاريزما الجامعة لمقاتلي تنظيم «القاعدة»، وفتح جبهة جديدة غير متوقعة في سورية والعراق، منح تنظيم الدولة الإسلامية فرصة ذهبية لوطء حياض مناطق غاب عنها «القاعدة» بعد هزائمه في العراق، وعدم رغبته في فتح جبهة جديدة في سورية، لكن الصراع بين البغدادي والجولاني على تزعم مقاتلي القاعدة في سورية، وما تبع ذلك من انشقاق مقاتلي التنظيم بين الرجلين، وانضمام غالبيتهم إلى تنظيم الدولة، أضعف الجولاني وتنظيمه «جبهة النصرة»، الذي حافظ على الولاء لقيادات القاعدة رغم كل شيء.
إعلان «الخلافة» من قبل أبو بكر البغدادي كان عاملاً حاسماً أيضاً، فقد استقطب الإعلان آلاف المقاتلين الأجانب إلى التنظيم الذين رأوا فيه قوة متعاظمة في مواجهة انحسار شعبية وقوة التنظيم الأم (القاعدة). ورغم تجنب التنظيمين المواجهة عملياً بعد طرد «تنظيم الدولة» لعناصر «النصرة» من دير الزور والرقة (التي أضحت من أهم مراكز التنظيم)، ورفض «النصرة» محاربة «تنظيم الدولة» بسبب أخوة الجهاد والعقيدة، كما قالت، إلا أن الشواهد تشير إلى تعاظم الخلافات الفكرية والسياسية بين الطرفين (تنظيم الدولة وتنظيم القاعدة وممثلها الحالي جبهة النصرة).
يتصاعد الخلاف الفكري يوماً بعد يوم بين «تنظيم الدولة» وبين تنظيم «القاعدة» الأم، صاحب النفوذ التقليدي في المنطقة، بخاصةً بعد الصعود الكبير لـ»تنظيم الدولة»، وتمدده في المنطقة على حساب «القاعدة»، وذلك عقب الإنجازات غير المسبوقة التي حققها التنظيم، وهذا ما أدى إلى إشعال حرب فكرية بين التنظيمين، بخاصةً أن كل تنظيم منهما يسعى إلى قيادة «الجهاد العالمي».
يحاول تنظيم «القاعدة» جاهداً استعادة نفوذه في المنطقة، والحفاظ على ما تبقى من التنظيمات التابعة له من الالتحاق بـ»تنظيم الدولة»، بعد أن أحس بالخطر الشديد على وجوده ومستقبله في المنطقة، مما أدى إلى إشعال حرب فكرية بين الطرفين.
وتتمحور الخلافات الفكرية بين «تنظيم الدولة» وتنظيم «القاعدة» حول عدد من النقاط التي أدت إلى تلك الحالة من التباين بين الطرفين، ومنها على سبيل المثال، مفهوم «العذر بالجهل»، ويقصد به «حكم من يأتي بفعل مخالف للعقيدة وهو لا يدري حرمة هذا الفعل»، حيث يُعد ذلك المفهوم واحداً من أهم القضايا المحورية التي كانت سبباً في حدوث حالة من الإنقسامات بين التنظيمات الجهادية في المنطقة، فالتنظيمات التي لديها قدر من «العذر بالجهل» مثل تنظيم «القاعدة» ترى أنهم مسلمون ولكنهم فاسقون، أما التنظيمات التي لا «تعذر بالجهل» مثل تنظيم «الدولة»، فترى أنهم كافرون مرتدون.
من أوجه التباين أيضاً مستوى التكفير المعتمد، فالتنظيمات الجهادية قاطبة لديها قدر من الفكر التكفيري، مقارنة بغيرها من التيارات الإسلامية الأخرى، لكن «تنظيم الدولة» تميز عن تنظيم «القاعدة» بارتفاع معدل الفكر التكفيري إلى أعلى درجاته، حتى أصبح أقرب إلى «الفكر التكفيري» منه إلى «الفكر الجهادي» التقليدي، وقد ظهر ذلك جليّاً في إسراف التنظيم في القتل تجاه مخالفيه، حيث يرى أن كل من يخالفه ولا يعطيه «البيعة» يعد كافراً، وبالتالي يُستباح دمه وعرضه وماله، وهذا ما جعل فكر «تنظيم الدولة» محل انتقاد من منظري الفكر الجهادي، من أمثال أبو محمد المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني إضافة إلى أيمن الظواهري.
«حق البيعة» من أبرز عوامل الخلاف بين الطرفين، حيث ترى «القاعدة» أن من حقها الحصول على «البيعة» من قبل كل التنظيمات الجهادية بما فيها «تنظيم الدولة»، لأنها التنظيم الأم لكل التنظيمات، وبالتالي هي أولى أن تأخذ البيعة للخلافة، في حين يرى «تنظيم الدولة» أنه ليس فرعاً تابعاً للقاعدة، وأنه قام بما لم يستطع أحد القيام به، وهو إعلان «الخلافة الإسلامية»، لذا يجب على قيادة القاعدة وأفرادها مبايعة خليفة المسلمين «البغدادي»، لأنه قرشي، وعُقدت له البيعة من المجاهدين الذين يحملون لواء الجهاد في العراق والشام وغيرها من البلدان الإسلامية.
كما يعد الموقف من الطوائف والأديان الأخرى واحداً من أبرز عوامل الفرقة بينهما، ففيما ينظر «تنظيم الدولة» إلى من هو غير مسلم على أنه كافر أصلي تطبق عليه أحكام الكفر كاملة، نجد بعض «التسامح» عند تنظيم القاعدة، وتمييزاً بين من هو غير مسلم بالأصل، ومن هو مسلم من المذاهب الأخرى، وتفريقاً في التعامل مع كل صنف.
الخلاف الفكري بين التنظيمين سيمثل عائقاً قوياً ومانعاً كبيراً في طريق الوحدة أو الاندماج بينهما مستقبلاً، رغم أن التحالف الدولي ضد «تنظيم الدولة» قد أوجد حالة من التقارب بين «القاعدة» و»جبهة النصرة»، وبين تنظيم الدولة، إلا أنه تقارب مؤقت مرتبط بالخطر القائم على الطرفين، وأغلب الظن أن الخلاف الفكري سرعان ما سيتطور بين الجانبين إلى خلاف عسكري مسلح يستند إلى عوامل القوة المتوافرة بعد انتهاء التحالف أو إعلان فشله في استئصال «تنظيم الدولة»، وبما أن المنطقة مقبلة على مزيد من الصراعات نتيجة انسداد الحلول السياسية، فإن التنظيم الأكثر تطرفاً وتشدداً سيجد المزيد من الأنصار والأتباع في هذه المعمعة، لا سيما أن فقدان تنظيم القاعدة لزعيمه الروحي والتاريخي بن لادن وضعف من خلفه وبريق شعار «الخلافة»، يغري كثيرين لا سيما في الغرب بالانضمام إلى التنظيم الأقوى والأكثر تشدداً، ولربما كان ذلك ما تريده أطراف غربية معينة، من خلال تجديد شباب الفكر المتشدد ولبوسه، بتجديد قياداته وأفكاره ودفعها أكثر نحو التطرف!