يعيش العالم في المرحلة الراهنة حروباً غير تقليدية تتخذ مسارات غير مألوفة من العنف وتستعمل فيها أسلحة يصعب التحكم في قدرتها التدميرية أو في مدى هيمنتها على المشهد السياسي العام، نظراً لطبيعة انتشارها وتداولها بعيداً عن رقابة المجتمع الدولي وعن فطنة وحذر الأجهزة الأمنية للدول القومية. فقد تغيرت هوية الصراعات المسلحة في العالم وبات يغلب عليها الطابع المجتمعي داخل الحدود الإقليمية للدول نفسها وذلك منذ سنة 1990.
وتشير الإحصائيات إلى أنه من سنة 1945 إلى سنة 1990 كان القسم الأكبر من الصراعات المسلحة في العالم، يجري ما بين الدول سواء في آسيا أو في إفريقيا أو حتى في أمريكا الجنوبية، لتنقلب المعادلة بعد نهاية الحرب الباردة وينتقل أكثر من ثلثي الصراعات نحو جغرافية الدول نفسها، في سياق حروب مفتوحة ما بين المجموعات المتنافسة على السلطة أو ما بين العرقيات والطوائف المختلفة.
وكان العديد من الدراسات التي قام بها خبراء دوليون، قد أشارت إلى أن المناطق التي ضعفت فيها مؤسسات الدولة، شهدت انتشاراً واسعاً للعنف الذي أودى بحياة الآلاف من البشر وبخاصة في إفريقيا، فقد شهدت مناطق التوتر في العالم سنة 2011 مقتل أكثر من 6400 شخص، وأشارت هذه الدراسات إلى أنه من بين 38 صراعاً مسلحاً عبر العالم في السنة نفسها، جرى 28 منها في إفريقيا. وقد قاد هذه الصراعات مسلحون متمردون ومعارضون لسلطة الدولة وميليشيات، إضافة إلى مجموعات إرهابية وأخرى إجرامية تنشط عبر الحدود الفاصلة بين الدول في سياق عمليات التهريب والاتجار بالبشر. ويجمع المراقبون على أن السياسة التوسعية لواشنطن وبعض الدول الغربية الكبرى، قد أسهمت بشكل لافت في انتشار حروب الفوضى العارمة في دول مثل العراق وأفغانستان وليبيا، كما أفضت الأزمة السورية إلى ولادة بؤر جديدة من انعدام الاستقرار في الشرق الأوسط وفق ما حدث في لبنان وما زال يحدث الآن في تركيا، حيث تُنبئ التفجيرات الأخيرة التي حدثت في بعض المدن التركية، أن المنطقة أصبحت مفتوحة على موجة جديدة من العنف الذي يصعب محاصرته.
ويمثل هذا العنف الجديد أحد التجليات المثيرة لما يسميه برتراند بادي عجز وضعف القوة أو «لا قوة القوة»، وذلك في سياق وضعيات غير تقليدية تكون فيها قوة الدول وكل أجهزتها الأمنية ومعها القوة المفرطة للدول الكبرى مثل الولايات المتحدة، غير قادرة على التحكم في العنف والفوضى العارمة الناجمة عن تراجع سلطة الدول الوطنية نتيجة لأسباب خارجية كما حدث بعد غزو العراق أو انطلاقاً من أسباب داخلية كما حدث في بداية الأمر في سوريا، قبل أن تتحول هذه الدولة العربية إلى ساحة للحرب بالوكالة ما بين القوى الدولية والإقليمية. لقد انتقل العالم إذن إلى وضعية يصفها بادي بعنف المجتمعات في مواجهة عنف الدول، الأمر الذي أدى إلى تقويض النظرية التقليدية المتعلقة بالعلاقات الدولية، بعد أن أصبح العنف المشروع للدولة محاصراً من قبل أشكال مجتمعية متعددة من العنف غير المشروع وغير المبرر في أغلب الأحيان، كما يحدث مثلاً مع المجموعات الإرهابية التي تمارس عنفاً وتقتيلاً أعمى من خلال أعمال التفجير التي تستهدف أماكن تجمع المواطنين الأبرياء.
من الأكيد عطفاً على ما تقدم ذكره، أن العنف ما بين الدول لم يختفِ ولن يختفي طالما أن هناك دولاً قومية لها أجنداتها الخاصة المتعارضة مع أجندات الدول المنافسة لها، فمن واشنطن إلى كوريا الشمالية وإيران، ومن الهند إلى باكستان ومن تايبي إلى بكين تتجلى الصراعات ما بين الدول وفق أشكال متعددة من المواجهة العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية، ويكون بعض هذه الصراعات في غاية الفتك والضراوة كما كان الحال عليه في الحرب العراقية – الإيرانية، لكن الصراع ما بين الدول – وعلى الرغم من خطورته- إلا أنه لا يقلق كثيراً المجتمع الدولي، لأنه يملك في الغالب القدرة على توظيف أدوات الضغط على هذا الطرف أو ذاك من أجل وقف دوامة الحرب.
أما العنف المجتمعي الذي تمتهنه الميليشيات أو المجموعات المسلحة أو القوى المناهضة للسلطة التي تمارس أشكالاً متعددة من العصيان المدني، فيأخذ أبعاداً أكثر خطورة عندما يجتاح المشهد الدولي، لأنه عنف متعدد ومتنوع لا يرتبط ببنية تنظيمية أو مؤسسية ومجزأ في أغلب الحالات، ولا يخضع لآليات الضبط والمراقبة التي تضعها وتشرف عليها الدول والمؤسسات الدولية، وهو يتجاوز بذلك الحروب التقليدية ويزيد من حجم المأساة بالنسبة للضحايا المدنيين. ويتسبب هذا النوع من العنف في مضاعفة الاستقطاب والاحتقان داخل المجتمع ويتحول الصراع بذلك إلى حروب أهلية شاملة، تقضي بشكل كامل على وجود الدول نتيجة لتضحية المتصارعين ببنود العقد الاجتماعي الذي يربط ما بين الحكام والمحكومين، كما يتسبب في بروز بؤر عنف فجائية ومتعددة وأشكال عدة من الإجرام الذي يكون من الصعب مواجهته.
ويمكن القول إن العولمة عملت على إضعاف الدول القومية وأسهمت في دخول العالم مرحلة جديدة من الأزمنة التي تنتشر فيها الحروب الأهلية كانتشار النار في الهشيم، ويشيع فيها العنف الناجم عن الاختلالات التي تتسبب فيها سياسات العولمة المتوحشة التي تضحي بتوازن واستقرار المجتمعات من أجل تحقيق وتجسيد مشاريع قوى السوق المهيمنة.