نون والقلم

أُميّة “الصورة” وثقافة “الجملة” وعصر “اللايكات” الإسلامي!

يتجه ملايين الطلبة في العالمين العربي والإسلامي لمدارسهم هذه الأيام، حيث سينخرطون في صفوفهم الدراسية لعام كامل، ويعايشون كبداً لأجل العلم، أو ربما لأجل النجاة وحيازة شهادة! ثم سيتخرجون، وبذيل القوافل السابقة سيلتحقون، بسابقيهم من المتعلمين الجهلاء، أو قاصري المعرفة ذوي الشهادات، أو “الأميون الجدد” وفقاً لمصطلح اليونيسكو، وهم الذين يعرفون القراءة ولكن لا يقرؤون، وهو مصطلح ما زال قاصراً عن إدراك حجم الأزمة العاصفة بعالمنا الإسلامي والعربي: أزمة القراءة!

هي ليست أزمة مستجدة، فقد تشبعت أجيالٌ تلو أجيال برسائل تنصح وتحث وتكاد تستجدي كافة الأطياف لجعل القراءة سلوكاً وعادة ترتقي بصاحبها وبالمجتمع. لكن الأزمة تطورت، وصارت أخطر من مجرد أزمة في الارتقاء، أو مجرد معضلة في عجلة التطور: فقد امتدت تأثيرات أزمة القراءة لتتداخل مع مصير مجتمعات وجماهير انفصلت عن نخبها، وتاهت في غياهب ما يسمى بالإعلام البديل، وغرقت بنمط جديد من الجهل الحديث الذي تشكله المعلومة السطحية والصورة العابرة والبهرجة الفارغة، إنه عصر “أمية الصورة” وفقاً للمصطلح الذي نطلقه هنا، وهي أمية سرطانية، لا توقف عجلة التطور فحسب، بل تمتد للانتكاس بضحاياها نحو مصير قاتم، كذاك الذي تبع الربيع العربي، ونشر الرعب والخراب والفوضى بين أطياف واسعة من الشعوب المقطعة فكرياً، والميتة “دماغياً”!

أمية الصورة هي ليست أمية في القراءة والكتابة، كما أنها ليست أمية الكمبيوتر والتكنولوجيا الحديثة، بل هي نمط من الإعاقة النفسية التي تحبس صاحبها عن تشغيل عقله وإشغال عينه بتتبع أسطر كتاب وتفكيك رموز أحرف ترتقي به نحو مستوى جديد، وهي ذاتها التي تسحب هذا العقل نحو إغراءات ثقافة الصورة والكلمة السطحية والجملة المجتزئة والمبثوثة في شبكة اجتماعية أو موقع انترنت، حيث تتحول المشاعر والحقائق والتواصل الإنساني لمجرد رموز ضاحكة وباكية مع بضع “لايكات” و”ريتويتات” و”تفضيلات”!

ستحبس مقاعد الدراسة طلابنا هذه الأيام وقلوبهم مستغرقة ببرامج التواصل، وبدلاً من هز الأقلام على صحائف وكتب، سترتعش الأنامل على شاشات الأجهزة الذكية لتضغط أحرفاً متناثرة وتكتب جملاً ومنطقاً مبعثراً مهترئاً، وليصبح أبناؤنا هؤلاء مجرد إضافة جديدة تدور بعجلة التخلف نحو الخلف، والعجيب أن هذا الجيل مع بضع أجيال سبقته، تنتابه ثقة عالية بذاته المتراجعة المنتكسة، ويعجز عن رؤية موقعه المتأخر بسلم الحضارات، فقد صنعت أطنان الصور والمواد المرئية والتكنولوجيا الحديثة ركاماً كثيفاً على العقول والبصائر، وفضلاً عن ذلك فإن إنزيمات الحساسية تتصاعد عند فئة واسعة من بني جلدتنا حين نتحدث عن مزايا وإيجابيات وتفوق الآخر الكافر الزنديق لنا في فن عمارة الأرض وصناعة الحياة، بل إن جيلاً كاملاً أصابه نمط من الغرور والتعالي والإشباع وتبلد المشاعر العميق تجاه مكوثنا المعاصر في قاع الأمم، وهذا كله تم بـ “بنج شديد التخدير”، يمزج خلطات من مفاهيم التفوق الفكري الإسلامي وريادة الإسلام وإنجازات الحضارة الإسلامية قبل قرون، وبين كل ما يندى له الجبين في حاضرنا الاجتماعي الاقتصادي السياسي الإسلامي!

كانت أول آية نزلت على وجه الكرة الأرضية من السماء: شديدة العملية وبعيدة تماماً عن التنظير، وبدأت بفعل أمر صريح: “اقرأ”. ولأهمية فعل الأمر هذا، تكرر الأمر ذاته مباشرة بعد آية واحدة فقط، فابتدأت الآية الثالثة التي نزلت على الكرة الأرضية بفعل الأمر القاطع نفسه: “اقرأ”! للدلالة على مركزية “القراءة” للوصول إلى الإيمان والتوحيد وإقامة الدين، ثم للدلالة على مركزية “القراءة” كوسيلة لاكتساب العلم الموسع للمعارف، الموصل لله، بل حتى “القرآن” -كتابنا العزيز- اسمه مشتق من “قَـرَأَ” وفقاً لبعض الآراء، لذا فالمسلمون أمام مهمة إلهية ذات أولوية قصوى، تبدأ بالقراءة وتستمر بالقراءة كلما مروا ورتلوا “اقرأ باسم ربك الذي خلق”، وكلما وقعت أعينهم على كلمة “قرآن”، وهذه المهمة هي ذاتها مناط تقصيرهم الأضخم والأكبر في عصرنا الحاضر، ومع الأسف الشديد! فالقراءة في عالمنا الإسلامي المعاصر تحولت إلى مجرد ترف أو نوع من التراث، وملازمة الكتب صارت حلماً ميتاً، مضت عليه الأيام ولم يعد تتذكره الغالبية العظمى من المسلمين.

في القرون التي شهدت صعوداً لحضارات إسلامية، نالت الكتب والقراءة والتأليف أقصى درجات التشريف والعناية، وتجسدت كل العبقرية الإسلامية في مدونات وكتب ومجلدات أبدعتها أنامل نخبة علمية تخلّدت أسماؤها وأسهمت في بناء الحضارة الأوروبية ذاتها، حتى صنعت ما يسميه المستشرق فرانس روزنثال: مبدأ انتصار “المعرفة” في العصور الوسطى الإسلامية، حيث كانت القوة تتجسد بالقدرة على القراءة واكتساب العلوم والتبحر الموسوعي للاطلاع حتى على الأفكار غير الإسلامية وأخبار الحضارات الأخرى.

هذا فيما سبق ومضى، وقد فات ذاك الزمن ومات، وحلّ بدله زمن الجهل المعتم الذي نعيشه الآن في العالم الإسلامي، حيث الغالبية مسترخية بلا مشقة ومجاهدة للعيون والعقول في صفحات الكتب، وبلا سعي لنيل معرفة أو بذل لاكتساب مزيد من العلم. نحن في عصر “انتصار الجهل في العالم الإسلامي المبتعد عن روح الإسلام” في العصر الحديث!

قد يلوم البعض التكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي، وهذا قد يكون صحيحاً إلى حدٍ ما، ولكن المشكلة أعمق من ذلك بكثير إن وقفنا بصدق مع أنفسنا وتتبعنا أصل المشكلة ومداها الزمني المخيف، والتي قد تكون أكثر قدماً من جميع التطورات التكنولوجية المعاصرة، وتعود إلى منتصف القرن الثامن عشر ميلادي أو أكثر، وهي المشكلة ذاتها التي ساهمت بانهيار الدولة العثمانية، وانهيار الشعوب التي كانت تحت حكمها بالجهل والتردي الفكري.

لذا ليس غريباً أن من بين أعلى 56 دار نشر في العالم، ليس هناك من بينها أي دار نشر إسلامية أو تقع في العالم الإسلامي، ومن بين أعلى الكتب مبيعاً في العالم (ما عدا القرآن الكريم والكتب السماوية الأخرى)، ليس هناك أي كتاب تم تأليفه من كاتب مسلم أو صدر من العالم الإسلامي! وهذا الحال يشمل القرن العشرين بأكمله، والسنوات التي تليها من القرن الحالي!

بل إن هناك أزمة حقيقية في إيجاد كتب معاصرة ملائمة للقارئ المسلم عموماً، وحتى العناوين والمحتوى صاروا مقتصرين وموجهين إلى نخبة معينة من القرّاء، الذين لا يقرؤون خارج تخصصاتهم، وصارت القراءة الطوعية لغاية توسعة المعارف والثقافة: ضرباً من إضاعة المال، وسلوكاً لا يصمد أمام تسليات التلفاز والسخافة!

ومن الناحية العملية، تحولت المعرفة بين جماهير العالم الإسلامي والعربي إلى مجرد مشاركة للروابط على صفحات التواصل الاجتماعي، المشفوعة بـ “لايكات” و”تفضيل” وأزرار إعجاب، فضلاً عن محتوى ضخم من الصور والفيديو في إنستغرام واليوتيوب وغيرهما، وهذا النمط من المعرفة لا يرتبط نهائياً بأصل العلم المتجسد في “كتاب وورقة وقلم وقراءة”، لحقائق جديدة تعصر العقل وتعصف بالذهن للارتقاء إلى مراتب أعلى.

نعم، يمكن أن نلوم إلى حد ما تفشي الفساد السياسي المتمازج مع التخلف الاجتماعي، وتركيز أنظمة الحكم في العالم الإسلامي على ضخ ميزانيات معتبرة إلى قطاعات الأمن والاستخبارات، فضلاً عن انهيار منظومة “الوقف الإسلامي” عموماً والتي كانت ترفد طلبة العلم والباحثين والمؤلفين، هذه كلها قد تكون عوامل مساهمة في انهيار القراءة، وانهيار الكتاب، وانهيار القارئ والمؤلف على حدٍ سواء. ولكن هذا اللوم عقيم. فالمشكلة مغروسة بتركيبتنا النفسية المعاصرة، والحكام والدجالون والديكتاتوريون وكل أصناف الجبابرة والظلمة لا يستطيعون منع إنسان هذه الأيام من قراءة كتاب أو تصفح موضوع إلكترنياً أو ورقياً أو سمعياً بل حتى بصرياً في بعض الأحيان!

لكن، ومع الأسف، تمخضت الفوضى والجلبة وقرع الطبول الضخمة عن “أزمة قراءة”، وهي صياغة لغوية مخففة من الحقيقة المروعة، ذات الوجه الآخر لتلك الأزمة، ونعني أزمة “جهل”! إن تراجع القراءة هي أساس للتراجع العلمي، والانهيار الفكري الحاصل، وهو انهيار جعل من الشعوب العربية والإسلامية عاجزة عن صناعة تغيير يليق بها، وفاقدة لأسباب مواجهة “ثورات مضادة لربيعٍ يتيم على موائد شعوب متوفية ثقافياً”، يقوم بها ذئاب أذكياء نالوا حظاً وافراً من الحكمة والعلم والتخطيط.

بسبب كل هذا، نجد أنفسنا ندفع فواتير جهلنا المتتالي، وتعاطينا المفتقد للحكمة مع المتغيرات الواسعة ذات الطلاسم المعقدة التي تعجز النخبة عن حلها، فكيف بشعوبنا الإسلامية التي طلقت الكتب وودعت القراءة واشترت استرخاءها منذ عقود؟!

فقد مضى الربيع العربي الأول بحسرة وألم في النفوس، لكن العبرة والمغزى والفائدة ورصيد الخبرة ما زال ضحلاً في الرؤوس، فالذين احتشدوا بساحات التحرير، وهتفوا بالتغيير، هم ذاتهم الذين مضوا إلى جهلهم “المتجدد” بعدم القراءة، وهم ذاتهم الذين ظلوا ممتنعين عن الاتصال الواعي فكرياً مع النخبة ومع المفكرين ومع قادة المجتمع الحقيقيين الذين ينظّرون ويوجهون. فهل نلوم الذئب على افتراس ليلى وربيعها العربي الذي لا يقرأ؟

أولئك الذين جمعهم الفيسبوك ودغدغتهم “الصور”، هم ذاتهم الذين تشظوا وتحطموا لاحقاً على أرض الواقع، حيث المنطق والحقيقة لا تسند “رفاهية الفكر الفيسبوكي” الضحل الذي ألقاهم على هامش الحياة، وحطمهم على أول صخرة واجهوها، وما أكثر الصخور في صحرائنا العربية والإسلامية!

حين تقل القراءة، ويتلاشى القرّاء، ينتشر الغباء، ويتحول الشعب إلى قطيع من الجهلاء، يقودهم الأعداء وبلا عناء! وهذه نتيجة حتمية وواقعية، لأن الجهل هنا هو جهل أُممي، ولأن ترك القراءة صار سلوكاً جماعياً منتشراً على مستوى مجتمع وشعوب وليس أفراداً، وهذا يشمل أيضا الحركات والتنظيمات والأحزاب التي تشكل في عمومها انعكاساً لحالة التخلف الثقافي وتلاشي النخبة الواعية.

نعم، قد يسهم الحاكم الفاسد ونظامه الطفيلي المخلد للأرض بصناعة جيل أو أجيال تتأذى من القراءة وتنفر من المعرفة، لكن يد الحاكم في تجهيل الناس أقصر بكثير من يده الأمنية الطائشة. ليس بمقدور أي حاكم أن يصدر قراراً بـ “تحريم القراءة”، ولا “تجريم المطالعة”، قد يستطيع أن يصادر أو يمنع كتاباً أو بضع كتب، لكن لن يستطيع تجفيف بحر المعرفة الإنسانية الواسع والعميق والذي يغرق فيه أي ديكتاتور مهما بلغ علوه وعتوه، أما ونحن في عصر الإنترنت؛ فإن قمع العلم صار عملياً نوعا من التراث الديكتاتوري في العصور الغابرة.

الصواب الرائع هو أن المبادرة إلى القراءة هي إرادة إنسانية سامية، وهمة نفسية يمكن حيازتها واقترافها والتشبع بها، دون كثيرٍ من الاعتبار للنظام السياسي أو الواقع الاجتماعي، بل وحتى الاقتصادي!

لذا لن يستطيع أحد أن يمنع مبادرات تقدس العلم وتحيي القراءة والمطالعة كخُلُقٍ إسلاميٍ أصيل، ولو بشكل متدرج شديد العمومية وبعيد عن السياسة. والأمثلة في العالم الغربي كثيرة لا تحصى، وقد انتشر خبر ذلك الحلاق الأمريكي الأسود، كورتني هولمز، والذي تطوع لحلاقة الأطفال “مجاناً” إن قاموا بقراءة كتاب بصوت مرتفع أثناء الحلاقة، كمبادرة لتعزيز قيمة القراءة في أنفسهم، ومثله قام المواطن الروماني فيكتور مايرون بمبادرة استمرت جهودها لمدة عام، لإقناع عمدة بلدته بإعفاء ركاب الباصات من دفع رسوم المواصلات إن قاموا باصطحاب كتاب وقراءته أثناء رحلتهم، ونحن أمامنا عدد لا يُحصى من الأفكار لتشجيع الشباب على ترك الهاتف والتلفاز ومسك ورقة وقلم وكتاب.

أما بعد؛ ليس هناك نقطة بداية سوى بتوجيه المال والموارد والكرم الإسلامي العربي لصناعة جيل يقرأ، لا يغني ويقرع. وليس هناك مسار سوى تكريم المؤلفين بصدق، وتبوّئهم مقاعد عليا في سلم المجتمعات الإسلامية، وإحياء طبقات النقاد والمراجعين، والترويج للكتب في الدعايات والإعلانات كما نروج الآن للمنظفات ومزيلات روائح العرق والفم! فقبل أن نمنح بندقية ليد جائعة وعقل خالٍ لصنع تغيير نسميه “ربيعاً عربياً أو إسلامياً”، علينا أن نتعلم “كيف” نصنع ذاك التغيير، ولكي نتعلم يجب أن نقرأ! “إقرأ” ثم التجأ لـ “ربك الأكرم”!

نقلا عن : الخليج أون لاين

أخبار ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى