غير مصنف

آكسراي.. من هنا تبدأ رحلة الهروب لأوروبا

على مهل، مشينا مع دليلنا إلى المنطقة الخلفية لمحطة آكسراي وسط إسطنبول، كانت الساعة تشير إلى نحو السابعة والنصف قبيل مغيب الشمس، فهناك تبدأ الخطوة الأولى في طريق الألف ميل نحو “الفردوس الأوروبي”، الذي بات يحلم به الآلاف من السوريين ومعهم عراقيون، بحثاً عن وطن يستبدلونه بوطن، أو أوطان عربية لفظتهم.

طلب منا الدليل العراقي ألا نستخدم جوالاتنا المحمولة للتصوير؛ لأن ذلك قد يعرضنا لأذى المهربين المنتشرين بالمكان بشكل خفي، وفعلاً كاد يحدث ما لا يحمد عقباه مع سائح خليجي، وقف وسط الساحة الخلفية لأخذ صورة “سيلفي”، فقد جاءه أحدهم وطلب منه حذف الصورة وترك المكان، بنبرة تهديد واضحة اضطرته إلى الامتثال له.

في الأرصفة والحدائق التي تقع خلف البوابة الرئيسية لمحطة آكسراي، يمكن أن تلاحظ أعداد الذين سيخرجون الليلة إلى منافذ التهريب، إلى البحر، يجلسون على المصاطب، لا يحملون معهم سوى حقيبة ظهر، خفيفة الوزن، ويمكن أن تلاحظ أن غالبية هؤلاء سوريون، ومعهم بأعداد أقل عراقيون، نساء وأطفال، عوائل بأكملها.

سيدة سورية مع أطفالها كانت تجلس وسط حديقة صغيرة، تحيط بهم بأيديها، كانت تبكي، كل من مر في تلك الساعة كان يسمع نشيجها، وكأنها تتخيل هول المشهد.

حاولنا أن نلتقي بأحدهم، مهرباً أو مهاجراً، لم يكن الأمر بالسهولة التي نتخيل، فالمهرب يخشى فضح أمره، والمهاجر لا يريد أن يطل عبر أي وسيلة إعلام.

قادنا دليلنا العراقي إلى أحدهم؛ مهرب سوري ذي أصول كردية، عرّفنا عليه على أننا راغبون بالهجرة، بعد أن منحنا أسماءً غير أسمائنا.

في البداية رفض التحدث لنا بأي تفاصيل، تعلل بالانشغال؛ “لدينا خمس باصات ستتحرك بعد المغرب على وجبات، وأنا مشغول بالترتيب لهم، أنت تعرف رقم هاتفي، اتصل وسوف نحدد موعداً لاحقاً”، هكذا خاطب دليلنا العراقي.

ألح عليه صاحبنا: “إنهم فقط يريدون أن يعرفوا متى يمكن أن يهاجروا وتكاليف الرحلة، والشباب لديهم إمكانية الدفع، المهم أن تكون الأمور مضمونة”.

وهكذا صار يحدثنا على عجل “معلم، تدفع 1200 دولار للواحد، ونحن نضمن لك الوصول إلى اليونان، وإذا تحب إلى ألمانيا، حضر مبلغ 7 آلاف دولار، ونحن لن نأخذ منك المبلغ كاملاً وإنما على شكل دفعات، آخر دفعة تسلم في ألمانيا”.

هكذا ببساطة لخص رحلة الهرب إلى فردوس أوروبا، دون أن يتطرق للمشاكل والقصص المأساوية التي نسمعها كل يوم، ثم تركنا وذهب، كانت شمس اسطنبول قد رحلت وبدأت أفواج المغادرين بالتحرك، فقد وقف باص أبيض يتسع لقرابة 50 راكباً، قبالة الساحة الخلفية لمحطة آكسراي، وبدأ الراحلون يدخلون من بابه الخلفي طبعاً، وهي إحدى أساليب المهربين لعدم انكشاف أمرهم.

الباص حمل ضعف طاقته الاستيعابية، وسيتجه عما قليل إلى محافظة إزمير في رحلة يفترض أنها تستغرق ست ساعات في الباص، بانتظار أن يلحقه باص آخر ثم آخر، ليصل العدد إلى ست باصات في ليلة واحدة، تغادر من إسطنبول إلى إزمير لتبدأ بعد ذلك رحلة العبور بالقوارب المطاطية صوب جزر اليونان.

الدفعة الثانية التي ستغادر تكون على الطرف المقابل من الشارع، بانتظار مغادرة الدفعة الأولى، لتنتقل هي إلى الطرف الثاني من الشارع خلف محطة آكسراي استعداداً لوصول الباص الثاني، وهكذا.

أحد الحالمين بجنة أوروبا، سوري من حلب، كان يقف عند بائع سندويشات الشاورما التركية لشراء عشاء له ولزوجته ولأطفاله الثلاثة.

وقفنا إلى جانبه، داعين أن تكون الرحلة ميسرة، فأمّن على دعائنا، وقال: “إن شاء الله ربنا يسهلها علينا وعليكم”.

سألناه: “هل أنت واثق من المهربين؟”.

قال: “لي العديد من الأصدقاء عبروا معهم، سعرهم أعلى من الآخرين بس (لكن) مضمونين”.

الرحلة- كما قال- ستبدأ من إزمير؛ “سيتم منحنا قارباً مطاطياً نقوم بنفخه، وبعد ذلك سيقوم أحد الشباب الهاربين بتسيير دفة القارب بعد أن يأخذ الاتجاه الصحيح من المهرب، وهناك سيتم استقبالنا من قبل شخص آخر يأخذنا إلى الحدود مع المجر أو مقدونيا، حسب الإمكانية”.

جاء الباص الثاني، صعد آخرون، وانتقل آخرون بعد ذلك من طرف الشارع إلى الطرف الآخر، بانتظار الباص الثالث، وهكذا، حتى وصل العدد إلى 6 باصات بالتمام والكمال، غادرت في ليلة واحدة محطة آكسراي باتجاه السواحل.

لا أحد ممن يأتي إلى تركيا من سوريا أو من العراق يرغب بالبقاء هنا، هذا ما لخصه سوري آخر، لديه مكتب عقارات وسط منطقة آكسراي.

وأضاف: “هنا يتجمع يومياً المئات من السوريين ومعهم بعض العراقيين، كلهم يريدون أن يغامروا، أن يركبوا البحر حتى لو كان الموت يهددهم، إنهم لا يجدون عملاً في تركيا، الحياة صعبة، والعودة إلى الوطن أكثر صعوبة، وقصص من استقروا هناك كثيرة، من ثم فإنهم يفضلون المغامرة”.

آكسراي، ستودع اليوم فوجاً آخر من العرب الباحثين عن وطن، وسيكون لها موعد آخر يوم غد وبعده وبعده، فالجميع يريد أن يفر قبل أن يحل الشتاء وتسوء الأحوال الجوية ويصعب ركوب البحر.

لا أحد بين هؤلاء الجالسين بانتظار باص الهرب يفكر بالعواقب، لا أحد منهم يفكر في قصص المئات من قبله الذين قضوا غرقاً؛ “نريد أن نهرب، أن نترك هذا العالم، فإما أن ننجو ونعيش بإنسانية، أو نموت، العودة إلى الوطن أشد بشاعة من الموت”، هكذا ختم فراس الحلبي حديثه معنا، وهو يتجه صوب آخر باص انطلق من آكسراي وسط إسطنبول إلى إزمير، كانت الساعة تشير إلى نحو 12 منتصف الليل، والحركة بدت أخف.

المصدر : الخليج أون لاين

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى