كان المشهد ذاك الصباح سيريالياً بمعنى الكلمة. جنود يهربون بأسلحتهم حين رأوا شاحنة تقتحم تجمعاً لزملائهم في محطة الحافلات في القدس. لكن المشهد فيه كل الحكاية.
حكاية الكف التي قاومت المخرز، الشعب المجرد من السلاح يواجه بكل ما أوتي من أساليب المحتل المدجج بكل أنواع السلاح حتى النووي. حكاية الحق الذي لا يعلو عليه شيء حتى طائرات أف 16 وصواريخ توما هوك. حكاية الزيتون الذي كلما اقتلعوا شجرة منه نبتت أشجار تحلب زيتاً صافياً لأبناء الأرض التي بارك بها الله وبما حولها.
جنود ومجندات يهربون بأسلحتهم لدى رؤيتهم شاحنة تدهس مجموعة من زملائهم في مكان قريب بمنطقة جبل المكبر في القدس المحتلة ليقتل سائقها الشاب الفلسطيني الأسير السابق فادي القنبر ستة منهم ويصيب 12 بجروح. وقد وصفت وسائل إعلام إسرائيلية هروب الجنود بالمخزي والمذل.
المشهد المخزي نفسه للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية حدث في 17 أكتوبر 2015 في محطة الحافلات الإسرائيلية بمدينة بئر السبع جنوب فلسطين، يومها قالت الشرطة الإسرائيلية إن منفذ العملية خطف سلاح أحد الجنود المتواجدين في المكان.
ومن ثم قام بإطلاق النار على المتواجدين مما أدّى إلى إصابة 9 أشخاص بجروح متفاوتة. وأظهر مقطع مصور كيفية هروب الجنود من مكان العملية ويتضح من المقطع الذي نشرته وسائل إعلام عبرية أن مجموعة من الجنود فروا من مكان العملية بشكل هستيري.
في المنطقة نفسها – جبل المكبر – بالقدس وفي 18 نوفمبر 2014 قتل الشابان الفلسطينينان غسان محمد أبو جمل «27 عاماً»، وابن عمه عدي عبد أبو جمل «22 عاماً»، خمسة إسرائيليين.
بينهم شرطي، وجرحا ثمانية آخرين، جراح أربعة منهم بالغة الخطورة، إثر هجوم نفذاه على معهد ديني في منطقة هارنوف قرب دير ياسين، غرب القدس المحتلة. تلك العملية نقلت معركة القدس إلى مستوى آخر جديد، في المواجهة مع قوات الاحتلال الإسرائيلي، إذ اضطر قائد شرطة الاحتلال للقول إن «لا حل سحرياً لدى شرطته لمواجهة مثل هذه العمليات».
عملية الدهس في القدس، لم يتبناها أي فصيل فلسطيني، مع أن معظم الفصائل رحبت بها وأشادت ببطولة منفذها، الأسير السابق فادي القنبر فيما أصابع الاتهام الإسرائيلية صوبت بعيد وقوع العملية، وقبل رفع الأشلاء والأنقاض، إلى «صلة ما» للمنفذ بـ «داعش»، وأقامت تماثلاً بين أسلوب تنفيذ العملية في القدس، وعمليتي الدهس في نيس وبرلين التي نفذها إرهابيو «داعش»…
وسعى الإعلام من بعد القادة السياسيين في إسرائيل، وأولهم نتانياهو، إلى إدراج العملية، في سياق موجة الإرهاب العالمي التي تضرب في كل مكان تقريباً، وليس في سياق العمليات التي شهدتها مدينة القدس، بالذات بعد اقتحام وزير الزراعة الإسرائيلي أوري أرئيل المسجد الأقصى وإحراق عائلة الدوابشة، ومسلسل الانتهاكات الإسرائيلية للمقدسات، والتي أودت بحياة أكثر من 300 فلسطيني وأكثر من 30 إسرائيلياً حتى الآن.
«السلفية الجهادية» بأجنحتها ومدارسها المختلفة، لم «تتوطن» في فلسطين حتى الآن، وفكرة «الجهاد العالمي» لم تجد ما يكفي من الرواج لها في أوساط الفلسطينيين، فهؤلاء أصحاب قضية، وطنهم تحت الاحتلال والحصار، وأرضهم وحقوقهم ومقدساتهم تبتلعها على نحو منهجي منظم، سلطة الاحتلال، ولديهم ما يكفيهم من تحديات.
إن متلازمة القوة والأمن تربك قادة إسرائيل. فبالرغم من القوة العسكرية التي تمتلكها إلا أنها غير قادرة على توفير الأمن حتى داخل ما تسميه عاصمتها الأبدية ولا في تل أبيب ذاتها. ولن تستطيع أبداً. فالأرض التي تم إنشاء الكيان الصهيوني عليها ليست بلا شعب كما روّج آباء الصهيونية بل ثمة شعب مقاوم مستعد أن يضحي بحياته من أجل إثبات هويته الفلسطينية وحقه في الأرض.
الصحافي أمنون لورد، أحد الناطقين بلسان اليمين الإسرائيلي والمقرّب من رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو، كتب مقالاً شن فيه هجوماً غير مسبوق على قادة المؤسسة الأمنية من الحاليين والسابقين قائلاً: الجمهور يعرف أن «الجرف الصامد» – حرب غزة لم يكن بمثابة نجاح عسكري باهر وأن ثمة «شعوراً بالحموضة» قد ظل قائماً.
وإنْ لم يكن شعوراً بالثكل والضياع كما في أعقاب حرب لبنان الثانية، والسبب الأساس لذلك يكمن في حقيقة أن الجمهور لا يزال يحتفظ بالذكرى المؤلمة لثلاثة إخفاقات هائلة كانت المؤسسة الأمنية شريكة كاملة فيها، وأكثر من كونه فشلاً للقيادة السياسية، اعتبر كثيرون، وبحق، أن «الجرف الصامد» هو فشل إضافي آخر للأجهزة الأمنية.
فضيحة الهرب و الجيش الذي من ورق تأتي فيما يتواصل مسلسل الكشف عن فضائح الاحتلال، والتي طالت قيادات سياسية وعسكرية ونواب في الكنيست من الصف الأول.
وفي مقدمتهم رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، الذي تورّط، وفق الاشتباه، في قضيتين مركزيتين تتعلقان بتهم فساد والحصول على رشاوى من رجلي أعمال إسرائيليين. قلنا سابقاً ونقلاً عن كاتب إسرائيلي إن دولة إسرائيل تعيش نهايتها، وها هي تتفكك من الداخل وجنودها يهربون بكامل أسلحتهم أمام شاب فلسطيني.. شاب واحد !