نون والقلم

مواد إعلامية مشبوهة

تحرص الصحف العربية على تزويد صفحاتها بمقالات مترجمة عن صحف غربية، ولا سيما الصحف الأمريكية والبريطانية أو حتى «الإسرائيلية»، إضافة إلى استقائها للأخبار من وكالات الأنباء الأجنبية. وهذا الفعل لا غبار عليه، لكن شرط قراءة تلك المواد الإعلامية بعين واعية وفاحصة تستجلي ما وراء السطور؛ إذ غالباً ما تكون الأخبار والمقالات متضمنة سياسات وتوجهات الدول الداعمة لتلك الوسائل الإعلامية، التي لا تخلو من سياسات مضادة للمصالح العربية بشكل عام، كما أن هناك شرطاً يختص بالأخبار يتمثل في عدم نقلها بعيوبها، وكما وردت من المصدر، خاصة أن المحررين يستسهلون عملية (القص واللصق) من تلك الوكالات التي تقدم خدماتها باللغة العربية.

قبل سنوات، نشرت إحدى الصحف العربية عن وكالة «رويترز» خبراً مفاده أن مجموعة من المقاتلين الفلسطينيين اعتدت على دورية «إسرائيلية»، ولمن يتساءل عن الغريب في الموضوع فإننا نحيله إلى كلمة (اعتدت) ودلالاتها التي تشير بكل بساطة إلى أن الفلسطينيين معتدون، وأن «الإسرائيليين» مظلومون.

عدد من المستخدمين العرب لوسائل التواصل الاجتماعي حسّنوا صورة «إسرائيل»، وترددت جمل (غير مفيدة) تزعم أن «إسرائيل» لم ترتكب جرائم بحق الشعب الفلسطيني كتلك التي يرتكبها الأسد، وهنا، وعلى وجه السرعة، تعلق في الذهن أن «إسرائيل» كانت رحيمة بالفلسطينيين طالما أنها لم تقتل العدد الذي قتله الأسد من شعبه، وأنها لم تدمر المدن التي دمرها الأسد. وهؤلاء ربما يكتبون بحسن نوايا، إلا أن النتيجة سيئة النوايا، لأنها قللت من المذابح التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في فلسطين ولبنان ومصر، ولو فكروا قليلاً لما أجروا مقارنات أبداً، لأن المجرمين «الإسرائيليين»، الذين شردوا شعباً بأكمله، وذبحوا الآلاف لا يمكن أن يتحولوا إلى أصحاب قلوب وادعة ورحيمة، فالدماء لا تزال تقطر من مخالبهم.

ما دعاني لكتابة ما سبق هو قراءتي لمقال مترجم ومنشور في إحدى الصحف العربية، كتبته صحفية «إسرائيلية» يعمل زوجها في مؤسسة للترويج ل«إسرائيل»، ويتحدث عن هجرة فنزويليين عدة من اليهود إلى «إسرائيل»، هاربين من الفقر نحو بلد غني ومستقر كما تقول الكاتبة. وتتحدث الصحفية عن رجل فنزويلي سالت دموعه وهو يتناول حساء الدجاج للمرة الأولى في «إسرائيل». وتقول الكاتبة: «ويستفيد اليهود الذين ينتقلون إلى «إسرائيل» من مجموعة من المزايا والامتيازات التي تقدمها الدولة، مثل: الرعاية الصحية المدعومة بشكل كبير، والتعليم المجاني، والتخفيضات على تأجير الشقق وسلع أخرى..»، وفي المقابل تصف الحياة في فنزويلا على لسان الرجل: «لقد كنا نتضور جوعاً؛ إذ لم يكن ثمة لحم، ولا سكر، ولا معجنات». والواقع أن الأزمة الاقتصادية التي تعصف بفنزويلا شديدة جداً لدرجة أن المواطنين يضطرون إلى الوقوف في طوابير طويلة لساعات أمام محال البقالة من أجل شراء السلع الأساسية، أو دفع أثمان باهظة في السوق السوداء، ويبدو أن الدافع وراء ترجمة المقالة، ونشرها في الصحيفة العربية يكمن في السطور التالية: «وأمام هذا الوضع المزري، غادر عشرات الآلاف من المواطنين البلاد، من بينهم عدد متزايد من اليهود الفنزويليين الذين هاجروا إلى «إسرائيل». غير أن العملية ليست سهلة، لأنه لا توجد علاقات دبلوماسية بين «إسرائيل» وفنزويلا. فعقب حرب «إسرائيل» على غزة عام 2009، عمد الرئيس الفنزويلي وقتئذ هوغو تشافيز إلى طرد السفير «الإسرائيلي» وموظفيه من كاراكاس، واصطف إلى جانب الفلسطينيين؛ حيث اعترف بحقهم في تأسيس دولتهم في وقت لاحق من ذاك العام، وأقام علاقات مع إيران، غريمة «إسرائيل»..).

الصحفية ذاتها (روث إيجلاش) زارت مدينة الإسكندرية المصرية عام 2010، لحضور «مؤتمر حرية التعبير في عصر التكنولوجيا الرقمية بمكتبة الإسكندرية»، وعوضاً عن الالتزام بجلسات المؤتمر، راحت تبحث عن إجابة لسؤال كان يدور في ذهنها، وهو: (لماذا ترتدي المصريات كل هذه الأزياء والأشكال المختلفة من الحجاب؟). وقالت: (المفارقة أنني كيهودية علمانية شعرت كلياً بأنني مضطرة لشراء غطاء رأس إسلامي، وكان من الواضح لي أن ارتداءه لم يكن دينياً، لكن ما كان يدفعني لارتدائه هو التفكير في التستر، على الأقل خلال مدة إقامتي بالإسكندرية، وأيضاً لأنني كنت واثقة من أنه يعد سبباً مهماً لحمايتي من التحرش الجنسي من جانب الرجال والشباب المصريين). وتصل الصحفية إلى نتيجة: (أنه رغم أنني في النهاية قررت التخلي عن الحجاب وتركته، إلا أنني ظللت مفتونة به، وبهذا الزي الإسلامي القديم، لكن رغم ذلك لاحظت أن ارتداء النقاب – غطاء الوجه – أو ارتداء الحجاب – غطاء الرأس – لم يكن لأسباب دينية فقط، بل إن نساء عدة أصغر سناً يرتدين هذا الحجاب مع مزيد من الملابس الغربية الضيقة والعارية في بعض الأحيان؛ وذلك تماشياً مع آخر صيحات الموضة).

إذن، حجاب مع ملابس غربية ضيقة وعارية في بعض الأحيان! وأعتقد أن الهدف من وراء تحقيقها الصحفي في الإسكندرية كان واضحاً.

لا توجد كتابة غربية بريئة، جميعها يسعى أصحابها لتوصيل أفكارهم بطرق شتى، ويتمكنون في النهاية من وضع السم في الدسم دون أن يشعر القارئ. فمن مفردة (الاعتداء) إلى قصة هجرة يهود فنزويلا إلى مقالة الحجاب مع الملابس العارية والضيقة، يكتمل المشهد. ولا ضرورة لأن نطالب الصحف بالتروي والتحقق من المواد التي يترجمونها، حتى لا تقع في الترويج للأعداء وأفكارهم وسياساتهم. والله من وراء القصد.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى