وترتبط هذه التحولات السياسية بشكل لافت مع التوترات العسكرية التي تصاعدت ما بين البلدين في المياه الدولية المتاخمة لبحر الصين، خلال هذه الشهور الأخيرة من عمر الولاية الرئاسية لباراك أوباما. كما يتزامن كل ذلك مع وجود تقارير إخبارية تشير إلى أن المؤسسة العسكرية الصينية باتت تشعر بالخطر من الدعم غير المسبوق لترامب لتايوان، وتسعى إلى اتخاذ إجراءات صارمة لمنع الجزيرة من القيام بتحركات سياسية مفاجئة تفضي إلى الإعلان عن استقلالها. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن ترامب كان قد تسبب بإثارة عاصفة كبيرة من الغضب لدى بكين عندما تحدث هاتفياً مع رئيسة تايوان في سابقة سياسية خطرة لم يسبق أن أقدمت عليها واشنطن منذ عقود.
يأتي هذا الفصل الجديد من المواجهة مع إدارة ترامب في سياق وضع سياسي صيني، يتميز باستمرار العقيدة الجديدة لبكين التي جرى بلورتها منذ سنة 1990، والمتمركزة حول 3 نقاط جيواستراتيجية رئيسية: تتعلق الأولى بالسعي إلى لملمة شتات الصين التاريخية من خلال استعادة هونغ كونغ سنة 1997 ومكاو سنة 1999 في انتظار عودة تايوان إلى السيادة الصينية. وتتعلق النقطة الثانية بالسعي إلى فرض نوع من السيطرة على المحيط الجغرافي القريب في آسيا والباسفيك وتطوير مناطق النفوذ في البحار الجنوبية. أما النقطة الثالثة والأخيرة فترتبط بمحاولات بكين تنويع مصادر قوتها العسكرية والاقتصادية والثقافية من أجل الحفاظ على مصالحها الحيوية عبر العالم، من خلال أنشطة غير تقليدية، كشراء سندات الخزينة الأمريكية من أجل التفاوض مع واشنطن من موقع قوة، وتوطيد العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع حلفاء واشنطن التقليديين، إضافة إلى استثمار جزء من الفائض المالي في نشاطات اقتصادية كبرى في بريطانيا، وفرنسا، وأجزاء واسعة من القارة الإفريقية.
وعليه فإن النشاط العسكري المتصاعد للبحرية الصينية يهدف إلى حماية السفن التجارية، والممرات البحرية التي تسهم في تزويد الصين بالطاقة الضرورية من أجل استمرار سير العجلة الصناعية، وتسعى الصين في السياق نفسه، إلى كسر الهيمنة الأمريكية على البحار الآسيوية من خلال إبرام اتفاقيات ثنائية مع بعض الدول الآسيوية، من أجل توفير مناطق ارتكاز لأساطيلها التجارية في سيرلانكا وبلوشيستان في باكستان، وفي كمبوديا وتايلاند، فضلاً عن النافذة البحرية التي حصلت عليها في كوريا الشمالية على مستوى المنطقة الشمالية – الغربية من الباسيفيك، من أجل استعادة أمجاد الصين التاريخية بوصفها تمثل «إمبراطورية الوسط» في هذه المنطقة الجغرافية التي باتت تشكل الرهان الأكبر بالنسبة لكل القوى العالمية العظمى.
وتعمل الصين، في سياق سعيها إلى تعزيز مكانتها كقوة عظمى صاعدة، على تطوير قدراتها العسكرية من خلال بلورة مجموعة من التوجهات الرئيسية، حيث يتعلق التوجه الأول بالتركيز على مفهومي «الصعود السلمي»، و«التطور السلمي»، اللذين جرى تطويرهما خلال سنتي 2003 و2005، في سياق سياسة عامة تهدف إلى تعزيز مكانة الصين في المنطقة، مع الحفاظ على السلم الإقليمي. ويستند التوجه الثاني إلى ما يسمى بسياسة «القوة الشاملة» التي تظهر في النسخ المختلفة من الكتاب الأبيض للجمهورية الصينية، وتسعى هذه السياسة إلى تحويل الصين إلى المنافس الأول والأبرز للولايات المتحدة الأمريكية في العالم، من خلال العمل على فرض نفسها في مختلف المجالات التي ترمز إلى القوة والنفوذ، وينبع من هنا حرص بكين المتواصل على تطوير قدرتها العسكرية، خاصة على المستويين البحري والجوي، وحتى الفضائي، من خلال تطوير منظومة الصواريخ المضادة للأقمار الصناعية. بينما يحيل التوجه الثالث إلى ما يسمى باستراتيجية «الدفاع النشيط» التي ظهرت في نسخة 2008 من الكتاب الأبيض، والتي تشير إلى سياسة التدعيم الوقائي للقدرات القتالية في مختلف المجالات من أجل الدفاع عن المصالح الداخلية والخارجية للصين، من خلال العمل على تحديث المعدات العسكرية، لاسيما في مجال الحرب التكنولوجية، والمعلوماتية. أما بالنسبة إلى التوجه الرابع والأخير، فتهدف بكين من ورائه إلى حث الجيش، ومؤسسات الدولة السيادية على الدفاع عن المنطلقات الأيديولوجية للجمهورية الصينية.
ونستطيع القول في الأخير، إن المواجهة الصينية – الأمريكية التي بدأت بواكيرها تلوح في الأفق، يمكن أن تترتب عليها عواقب أكثر سلبية على الاستقرار العالمي، قياساً بالمواجهة التقليدية الأمريكية – الروسية الحالية؛ ومن غير المستبعد بالتالي، أن يكون سعي ترامب إلى تطبيع العلاقات مع موسكو، نابعاً من حرصه على حشد كل طاقاته من أجل مواجهة المارد الصيني، بالرغم من اقتناع ترامب نفسه أن بوتين – الذي سبق أن وصفه بالرجل الذكي- لن يتخلى عن التحالف الاستراتيجي الذي يربط الصين وروسيا.