نون والقلم

إنهم يقتلون الصحف !

خلتها لن ترحل. كائنات كثيرة في حياتنا، بشر وغير بشر، نخالها باقية معنا لا تغادر. الآخرون يرحلون ولكن من ائتمناهم على أنفسنا وإرادتنا ورأينا ومستقبلنا، فهؤلاء حسب مخيلاتنا لا يرحلون. نحب بالشهوة المجنونة فيبتعدون، أما من أحببنا بخلطة من عقل وقلب فهؤلاء باقون، لا نفرط فيهم ولا يفرطون فينا. الآخرون نعتادهم في المناسبات، وفي غيابها لا يذكروننا ولا نذكرهم، أما من اعتدناهم كل صباح اعتيادنا كوب الشاي وصحن الفول واعتدناهم مع حلول المساء نستكمل ما بدأناه معاً في الصباح، وإن بدون كأس الشاي وصحن الفول، فهؤلاء لا يغيبون وإن غابوا فليلة ثم يعودون.

[bctt tweet=”قبل أسابيع سربوا إلينا أن صحيفة «السفير» اللبنانية، تستعد للرحيل، واليوم يصل إلى علمنا أنها رحلت” via=”no”].

من «الشروق» كنت وزملاء لي نكتب في «السفير»، ومن «السفير» كان طلال سلمان وزملاء له يكتبون في «الشروق». هكذا بدأت العلاقة بين الصحافة اللبنانية والصحافة المصرية قبل قرن ونصف القرن، وهكذا استمرت وإلى هنا وصلت.

خلال هذه المسيرة الطويلة رحلت صحف أو توقفت وبقيت صحف، توسع البعض منها وتألق لفترة قبل أن يخبو، وانكمش بعض آخر لفترة ليعود بعدها ويزدهر.

صحافة البلدين واجهت تحديات ضخمة، وللحق قاومت ببسالة. واجهت في لبنان الحرب الأهلية وخرجت منها أقوى مما كانت عندما نشبت، وكانت «السفير» في الطليعة. وواجهت في مصر عسف السلطة في كل عصورها، عسف الإنجليز وعسف القصر الملكي وعسف الأحزاب «الليبرالية»، وعسف حكومة الثورة وحكومات الحرب والسلام، وحكومة باسم الإسلام وحكومة محاربة الإرهاب. بعد كل مواجهة، وبخاصة المواجهات المبكرة، خرجت عقول ومهارات صحفية أكفأ وأفضل. تعودت الصحافة على حيل النخب الحاكمة وتعلمت كيف تجاريها بل وتتفوق عليها، وتعود الحكام على عناد الصحافة وصمودها، وحين الشعور بالضعف تجاهها كانوا يسرعون بتلفيق القضايا وفتح المعتقلات، مروراً بحجب المعلومات وانتهاء بإغلاق الصحف.

«إنهم يذبحون الصحف»، سمعتها من صحفي أجنبي يعلق على حال الصحافة في معظم الدول التي زارها أخيراً خلال رحلة له حول العالم. قال أينما تذهب ستجد حكومة تحاصر الصحف وتطارد الصحفيين.

تابعت عن قرب ثم عن بعد صحافة أمريكا وعلاقتها بالسلطة. تابعتها لمدة طويلة ولم أقابل في أي يوم خلالها هذا الخوف المعلن أحياناً والصامت أحياناً أخرى من المصير الذي ينتظر الصحف والصحفيين الأمريكيين على أيدى الرئيس الجديد.

أجد صعوبة في تحميل ترامب كل المسؤولية عن تدهور علاقاته بالصحفيين؛ إذ كيف ينسى للصحف أن أكثر من 365 صحيفة أعلنت أثناء الحملة الانتخابية انحيازها لهيلاري كلينتون خلال الحملة الانتخابية، ولم يقف مؤيداً له سوى 11 صحيفة.

كذلك أجد صعوبة في تحميل الصحافة الأمريكية وحدها مسؤولية هذا التدهور في العلاقات، إذ كيف ينسى الصحفيون خديعة ترامب حين جرجرهم في رحلة شاقة، هو يكذب وهم، كصحفيين وهو واجبهم، ينقلون الكذب ثم يحققون فيه. الصحفي دانيال ديل وكان مرافقاً لترامب في الحملة الانتخابية كتب يقول إنه جمع وحده 560 قصة أو حقيقة زائفة أدلى بها ترامب، أي بمعدل عشرين خبراً زائفاً للنشر كل يوم. أما «الغارديان» البريطانية فقد خصصت عموداً يومياً بعنوان «ترامب الكذاب».

«السفير» رحلت وصحف كثيرة أخرى تستعد للرحيل. لديها جميعاً أسباب ومبررات واضحة، ولكل منها بلا شك سبب أو أسباب خاصة. معظم حكومات العالم السلطوية كما الديمقراطية تكاد تكون متفقة على تجفيف مصادر الأخبار لحرمان الصحفيين من المعلومات، التي هي سبب وجودهم. نعرف من ظروفنا المحلية أن العمل الحكومي مهما كان جاداً أم تافهاً صار جزءاً من أسرار الأمن القومي وعماد الحرب ضد الإرهاب. يعرفون ما نعرف، يعرفون أن لا معلومات يعني لا صحافة. ترامب نفسه تعهد بالتعامل بالقسوة اللازمة مع مسربي الأخبار الحكومية، وهو الدرس الذي تلقنه هو وغيره من الرئيس فلاديمير بوتين.

لا أستهين بما يفعله ترامب. أنت كحاكم إذا أردت قتل صحيفة أو دفعها إلى موت بطيء، فما عليك إلا أن تشغلها بأمور غير صحفية. حكومات كثيرة تجرب الآن تلفيق قضايا للصحفيين فتلهيهم هم وصحفهم ونقاباتهم في الدفاع ودفع الغرامات والكفالات، اشغلها أيضاً بالضغط الاقتصادي والأمني وادفعها نحو طريق البيع للحكومة أو إعلان الإفلاس.

سياسة كهذه كفيلة بأن تشل الصحفيين وتنشر الارتباك بينهم وتدفع ضعافهم إلى التهافت على الوقوف على أبواب السلطة أو نوافذها سعياً وراء إرضاء الحكم على حساب المهنة ومستقبل الصحيفة والصحافة بأسرها. ثم إنك إذا فعلت مثل ما فعله حكام روسيا البوتينية، وتركيا الأردوغانية، وأمريكا الترامباوية، وطلبت من الصحف الالتزام بالنصوص الواردة إليها من جهاز مخصص لتوفير الأخبار وصياغة المادة الخبرية ومد الصحف بها، فستضمن ضمور الجسد الصحفي وانهيار منظومة القيم الصحفية، وتضمن أيضاً اقتناع الصحفيين بضرورة البحث عن وظائف في مجال العلاقات العامة أو التخصص في خدمة سفارات عربية وأجهزة إعلامية وسياسية أجنبية.

قالها صحفي لبناني كبير، قال إنه إذا انتفت السياسة أو ضاق مجالها، وأغلقت أو جفّت مصادر الأخبار وتعمقت مهانة المهنة تحت القمع، وتلوثت سمعتها بالتشهير والإفساد، فالموت البطيء لصحيفة بعد أخرى هو النهاية المحتومة.

 

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى