نون والقلم

التكنولوجيا والحضارة

إن أبسط تعريف للتكنولوجيا هي أنها توظيف العلم في خدمة الصناعة بينما يبدو على الجانب الآخر أبسط تعريف للحضارة أنها نسق ثقافي وبناء فكري يرتبطان بعنصري الزمان والمكان، لذلك فإن ليس كل تقدم تكنولوجي تعبيراً حضارياً ولا أي نسق ثقافي متميز صدى لتكنولوجيا معينة، والأمثلة كثيرة ، فالولايات المتحدة دولة متقدمة في التقنيات الحديثة لكنها لا تمثل بالضرورة بناءً حضارياً متماسكاً. ولقد شهدت أثناء إقامتي سنوات في الهند مجتمعات متخلفة تقنياً لكنها متقدمة حضارياً بمنطق التاريخ وبحكم التراث الإنساني الذي تضمه.

ولماذا نذهب بعيداً [bctt tweet=”فمصر قد لا تكون أكثر دول المنطقة تقدماً في النواحي التقنية لكنها بالتأكيد أعرق دولها حضارة وأقدمها تراثاً ” via=”no”]بل إنه قد يكون من المدهش أن بعض الحضارات العريقة لا تتمتع حالياً بقدر مناسب من التقدم التكنولوجي بل وتعاني مظاهر التخلف في بعض نواحي الحياة اليومية وذلك يدل على أن لزومية الارتباط بين الأصالة الحضارية والتقدم التكنولوجي ليست قائمة دائماً بل قد توجد إحداها وتختفي الثانية، وذلك يفتح الباب أمامنا لحوار يدور حول النقاط التالية:

أولاً: إن نظرة إلى العالم حولنا توضح أن دول الحضارات القديمة ليست بالضرورة هي الأعلى ازدهاراً أو الأكثر تقدماً بل إن بعضها يعاني الترهل والشيخوخة والهرم ؛ ذلك أن الشعوب تتباهى بحضاراتها لكنها لا تستطيع الاكتفاء بذلك، فالشعوب لا تقتات تاريخاً ولا تلعق شعارات لذلك تصبح التكنولوجيا أمراً ضرورياً فإذا اقترن التاريخ العريق بالتقدم التكنولوجي مثلما هو الأمر بالنسبة لدولة مثل الصين فإننا نكون أمام نموذج متوحد جمع الاثنين معاً ، حضارة عريقة وتقدماً كاسحاً. أما إذا أخذنا النموذج الأمريكي على سبيل المثال فسوف نجد أنه يقدم أرقى تكنولوجيا معاصرة ولكن أقدم شيء لديه لا يزيد على خمسمئة عام بينما الحضارات النهرية الكبرى في الصين وبابل ومصر الفرعونية والهند القديمة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ السحيق لآلاف السنين.

ثانياً: إن مقدمة ابن خلدون في نظرية العمران ونشوء المدن تمثل إسهاماً عربياً إسلامياً من هذا الموسوعي التونسي وهو يكتب تفسيراً مقبولاً لنشوء الحضارات، وسوف نجد أن هناك تفرقة بين حضارة النهر وحضارة الصحراء (Cultof River Cultof Desert ) ولعل هذا يفسر إلى حد كبير الفوارق بين مجتمعات البادية ومجتمعات الحضر حتى داخل الدولة الواحدة، وسوف نجد أن العراقة الحضارية يمكن أن ترتبط بأكثر المجتمعات بساطة بل وبدائية بينما يمكن زرع التكنولوجيا في أحدث المجتمعات نشوءًا وأقلها عمراً، إنها رؤية متداخلة لا يمكن الجزم بها أو القطع فيها ولكنها تمثل استقراءً شاملاً لحضارات الأمم وثقافات الشعوب.

ثالثاً: سوف يلاحظ المتأمل في الخريطة الجغرافية المعاصرة أن العواصم نشأت على ضفاف الأنهار أو شواطئ البحار، ولكن الأمر اختلف مع اختراع الطيران وإمكانية الوصول إلى أية بقعة على الأرض دون اللجوء إلى طريق بري أو ممر بحري، ولو أخذنا مصر مثالًا فسوف نجد أن الإسكندرية على شاطئ المتوسط أقدم من القاهرة على ضفاف النيل، فلكل عصر مدنه ومجتمعاته، كما أن الجغرافيا البشرية ليست علمًا استاتيكياً بل إن فيها ديناميكية تجعلها قابلة للتغيير والتطور وفقاً للعوامل الثلاثة : الزمان والمكان والسكان.

رابعاً: لا شك أن البحث العلمي قد لعب في العقود الأخيرة دوراً هائلاً في تجسير الفجوة بين العمق الحضاري والتقدم التكنولوجي وأجرى مصالحة بينهما، ولعله يحضرني في هذا السياق النموذج الهندي حيث عشت في ذلك البلد الكبير سنوات أربعاً ورأيت الحياة هناك وكأنها متحف للزمان والمكان، فيه الغنى والفقر، فيه التقدم والتخلف، فيه ديانات ولغات وفلسفات بغير عدد. ومع ذلك فالهند دولة نووية ودولة فضاء خارجي بل ودولة اكتفاء ذاتي في الحبوب الغذائية، فالعمق الحضاري يمكن أن يؤدي إلى التقدم التكنولوجي ولكن العكس يبدو أمراً عسيراً ونموذجاً غير شائع.

خامساً: إن تقادم الأمم وشيخوخة النظم عاملان أساسيان في تشكيل صورة الدول ذات البناء الحضاري طويل العمر ، التي قد تفتقر إلى التكنولوجيا العصرية وتعاني كثافة سكانية عالية وتباهي بتاريخها وتغوص في حاضرها ولا تبالي كثيراً بمستقبلها.

ولعلنا نتساءل الآن عن دول مثل الصين والهند ومصر والعراق لندرك التفاوت في معدلات التقدم التكنولوجي رغم الجذور الحضارية الضاربة في القدم، فالمعيار هو مدى تماشي الدولة مع عصرها وليس مجرد زهوها بتاريخها.

هذه قراءة موجزة في ملف التباين بين التكنولوجيا في جانب والحضارة في جانب آخر حيث تبدو الهوية الثقافية هي الجوهر بينما التقدم التقني هو القشرة الخارجية للبناء الحضاري إذا كان قائمًا.. إنها قضية العصر وربما كل عصر!

 

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى