نون والقلم

غضب البطرسية.. المشروع والممنوع

لا يصح التعويل على عدم تكرار حوادث إرهابية مماثلة للعمل الانتحاري، الذي روّع الكنيسة البطرسية في قلب القاهرة، وأسقط عشرات الضحايا، أغلبهم من السيدات والأطفال.

التهوين مما قد يحدث، كما التهويل فيما حدث، كلاهما يعطل التفكير في حقائق الموقف، وأين نقاط القوة والضعف بالحرب المفتوحة مع الإرهاب.

أول ما يستدعي التوقف عنده أن الحادث جرى بحزام ناسف، قوته التدميرية هزت المكان، وروعت مثلما قتلت.

الأسلوب نفسه جديد نسبياً بالنظر إلى أنه لا توجد سوابق يعتد بها.

من غير المستبعد احتمال تكرار عمليات الأحزمة الناسفة في تجمعات دينية أو مدنية، بعد أن استهلكت السيارات المفخخة قدرتها على هز ثقة المجتمع في نفسه.

كأي عمل إرهابي آخر، فإنه استخدم العنف لأهداف سياسية مقصودة. وقد تناثرت مع شظايا الحزام الناسف وجثث الضحايا، رسائل أرادت ضرب أية عودة محتملة للسياحة في الموسم الشتوي، بالقرب من احتفالات أعياد الميلاد، التي تفرض على الكنائس خلالها إجراءات أمنية مشددة، ومنع أية فرص لأي تعافٍ اقتصادي، ورفع منسوب الغضب الاجتماعي، والتشكيك في قدرة الدولة على حفظ أمن مواطنيها.

لم تكن الرسائل عشوائية، فهناك من خطط على مهل، ودرس الثغرات الأمنية على أبواب «البطرسية»، وسدد ضربته الدامية في التوقيت الأكثر مناسبة لرسائله السياسية.

ذلك يتطلب التحرز قبل إصدار الأحكام، فالحادث لم يكن محض «ضربة إحباط»، أو «عمل يائس»، لجماعات العنف والإرهاب بعد حصارها في سيناء.

بطبيعة العمليات الانتحارية، فإنه يصعب وقفها تماماً في مصر، كما أي دولة أخرى، مهما بلغت الإجراءات الأمنية من تشدد.

كل ما يمكن فعله أمنياً تعقب تنظيماتها وتوجيه ضربات استباقية تمنع وتخفف أية آثار سلبية على سلامة المجتمع. ورغم نجاح سلطات الأمن في التوصل إلى شخصية الانتحاري بغضون ساعات إلّا أن فجوات عدم الثقة شككت في الرواية الرسمية على شبكات التواصل الاجتماعي.

ما هو ضروري أن تضطلع السياسة بأدوارها في بناء التوافقات العامة، وفق قواعد الدولة الدستورية، التي تضمن الحريات العامة، وتصون حقوق مواطنيها، وتلتزم قواعد عدالة توزيع الأعباء في تحمل تبعات الإصلاح الاقتصادي لا تحميلها للطبقة الوسطى، والفئات الأكثر فقراً وعوزاً وحدهم.

في الأزمة الاجتماعية، المترتبة على ارتفاعات أسعار السلع الرئيسية وعجز قطاعات واسعة من المواطنين في تلبية أبسط احتياجاتهم، بيئة حاضنة لثلاثة أنواع من الجرائم.

الأولى، الجريمة الجنائية، ومن المرجح اتساع نطاقها.. والثانية، الجريمة الطائفية، التي تنشأ في أغلب الأحوال لأهون الأسباب.. والثالثة، الجريمة الإرهابية، وقد تجد فرصتها في مزيد من التمركز والقدرة على الضم والتجنيد.

أرجو أن نلتفت إلى أن المتهم بتنفيذ العمل الإرهابي الانتحاري ينتمي إلى الفيوم، ثاني أفقر محافظة مصرية، وفق تقارير التنمية الإنسانية.

وأرجو أن نلتفت إلى أن المجموعات الغاضبة، التي تدفقت، إثر الحادث، على الكنيسة البطرسية، ينتمي أغلبها إلى مناطق فقيرة، بينما جمهورها الطبيعي، بالتكوين الاجتماعي، من النخبة القبطية، وكان الضيق الاجتماعي داعياً، مع الانفعال بالحادث المروع، للضيق الاجتماعي، آثاره وتداعياته السلبية في الحرب ضد الإرهاب، بنفس القدر، فإن لضيق المجال العام آثاراً وتداعيات أخرى.

بقدر اتساع المجال العام يكتسب المجتمع، أي مجتمع، قدرته على التماسك الداخلي بالاقتناع لا الفرض، وبناء توافقاته العامة بالحوار لا المصادرة.

وقد كان لافتاً الاعتداء على بعض مقدمي البرامج على شاشات القنوات الخاصة من جماعات أفلت غضبها من أي سيطرة، أثناء ذهابهم لـ«البطرسية» صباح الحادث، لتغطيته وإبداء التضامن في مواجهته.

لم تكن أشخاصهم مقصودة بذاتها، بقدر ما كانت رسالة غضب بالتفلت على الدولة نفسها.

ليس من مصلحة الإعلام المصري، الذي تدهورت أوضاعه، ولا مصلحة البلد كله التباطؤ التشريعي في تأسيس نظام إعلامي جديد، يتسق مع الدستور ونصوصه التي تضمن الحريات العامة على قاعدتي المهنية والمسؤولية.

عندما تغيب القواعد يفقد الإعلام احترامه وتتحول الشاشات إلى أسواق تتطاير فيها عبارات لا تصح أن تسمع، ومشاهد لا يجوز أن ترى.

بحسب تعبير مسؤول متداخل بالملف، فإن الإعلام يحاول أن «يسوق الدولة» إلى سياسات وخيارات، لا مدروسة ولا صالحة لمواجهة الموقف الصعب في الحرب ضد الإرهاب.

فهناك من طالبوا بإحالة المتهمين بالإرهاب إلى المحاكم العسكرية، وأتوا بـ«خبراء استراتيجيين»، تحولوا إلى «خبراء قانونيين» ليقولوا إن «القضاء العسكري جاهز». هذا غير محتمل وغير مقبول.

الدستور قاطع في أن المحاكم الاستثنائية محظورة، والكلام المنفلت عن تعديل الدستور يقوض أي شرعية، ويضعف الدولة ولا يقويها في الحرب ضد الإرهاب.

قانون العقوبات كافٍ وقانون الكيانات الإرهابية كافٍ، ويزيد في ردع الإرهاب، على ما يقول قانونيون مخضرمون.

باستبعاد المحاكم العسكرية، والكلام نهائي، وترجيح استبعاد آخر لتعديلات على قانون الإجراءات الجنائية حتى لا يطعن عليها بعدم الدستورية، فإن الاتجاه الغالب حتى الآن هو تلافي أسباب تأجيل البت في قضايا الإرهاب، وكلها لوجستيات يمكن اختصارها من دون إخلال بحق التقاضي.

[bctt tweet=”الالتزام بالشرعية الدستورية يضمن مواجهة الإرهاب ودحره، وأي كلام آخر مقامرة بالمصير المصري.” via=”no”]

 

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى