أوضح عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم أن الحلبة الدولية أضحت تعجّ بالفاعلين الاجتماعيين من كل الأنواع، الذين تجمعهم وتفرقهم الصعوبات والأمراض الاجتماعية المختلفة، وتصنعهم وتعيد تشكيلهم رهانات شديدة التنوع. ويؤكد المفكر الفرنسي برتراند بادي في السياق نفسه، أن مجتمعاتنا التي كانت محروسة ومنظمة من طرف الدول دخلت في معترك فضاء يتميّز بتداخل وتشابك المجتمعات؛ فالاتفاقات والتفاهمات السياسية التي كانت تُسهم في تنظيم أجندات المتصارعين لم تعد قادرة على أن تراقب بمفردها الإيقاع الخاص بتحركات هؤلاء المتنافسين على السلطة والنفوذ. وتسهم العولمة وضعف الدول القومية وتراجع مستوى القوة العمومية، في إعادة إعطاء الأفراد والمجموعات نصيباً معتبراً من الاستقلالية، من أجل أن يفرضوا إرادتهم وتطلعاتهم وأصواتهم وحتى عنفهم بشكل مباشر.
[bctt tweet=”بات العالم يشهد تداخلاً غير مسبوق ما بين المجالين السياسي والاجتماعي،” via=”no”] لأن السياقات المجتمعية أضحت قادرة على التأثير في المعطيات والأجندات السياسية، وفق سيناريوهات استثنائية وغير معهودة بالنسبة للمنظرين في المجال السياسي. وتفعل الترسبات الاجتماعية فعلها في التأثير في مسار الأحداث السياسية على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية، ومن ثمة فإن الجانب المجتمعي لم يعد مجرد عنصر بسيط من بين عناصر أخرى في رهانات المعادلات الدولية الكبرى، بل تحوّل إلى فاعل حاسم في صناعة الحدث السياسي وفي توجيهه في سياق مشهد معقد يصعب التنبؤ بمساراته وبنتائج التفاعلات التي تجري بداخله.يرمز العامل المجتمعي إذن إلى انقلابات جذرية على مستوى تطورات الأحداث لاسيما في مجتمعات كان يُعتقد أنها عاجزة عن قيادة الفعل وغير قادرة عن المساهمة في تحريك عجلة الأحداث، وأنها مكتفية كسابق عهدها بتنفيذ أجندات نخبها السياسية، كما هو الشأن بالنسبة لأزمات الشرق الأوسط التي كان يُنظر إليها بوصفها تمثل تجليات لوقائع وأحداث سياسية صرفة. وعليه فإن التحليلات المتسرعة تخطئ عندما تمنح للمتصارعين الذين يتصدّرون المشهد الإعلامي، ثقة مبالغاً فيها، وتحديداً عندما تنظر إلى أشكال العنف غير الخاضعة للدول على أنها مجرد خلل في عمل المؤسسات أو اضطراب في مسار التطور السياسي داخل هذه الدولة أو تلك، كما ترى في التطرف الديني مجرد ظاهرة انتقالية عابرة تسبق مساراً مدنياً وعلمانياً موعوداً بالنسبة لسيرورة بناء الدولة المعاصرة، ولآلية تطور مؤسسات المجتمع المدني وفق ما حدث في الحضارة الغربية.
بيد أن القراءة السوسيولوجية المتأنية تفتح أعيننا على تمثلات وتصورات جديدة وغير مسبوقة بالنسبة للتطورات التي تشهدها منطقتنا العربية ومعها العالم برمته، لأن الوقائع الاجتماعية ليست مجرد بقايا أحداث سياسية لم يجر التحكم فيها بشكل جيد، وبالتالي فإن العنف المجتمعي لا يعبّر عن تمظهرات مؤقتة ومرشّحة للزوال، إنه على خلاف ذلك مؤشر خطر إلى ضعف مزمن في القدرة على الاندماج الاجتماعي، وهو فضلاً عن ذلك علامة دالة دلالة بالغة الخطورة على وجود ضعف كبير في مشروعية المؤسسات السياسية وفي نسق الحكم وآليات التداول على السلطة.
لا شك – بحسب الافتراض الذي تذهب إليه هذه المقاربة – أن التدخل المفاجئ للمجتمعات في الصراعات التقليدية للدول، يجعل هذه الأخيرة تنظر بعين الشك والريبة إلى تحركات هذا «الدخيل» على اللعبة السياسية وعلى قواعدها التي صاغها المتصارعون محلياً وعالمياً على مستوى المشهد الدولي الراهن، وكأن هذه المجتمعات تريد أن تطيح بالتوازنات التي حققتها الدول منذ تأسيسها. هكذا تستفيق المجتمعات فجأة وتسعى وفق ديناميكية جديدة، إلى إعادة بناء علاقات القوى داخل السلطة بالمعنى الذي يحيل إليه الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو، حيث تكون السلطة قادرة على الانبثاق والانتشار في كل الاتجاهات.
ويمكن القول إن الخطأ الجسيم الذي يقع فيه السياسيون يكمن في تصورهم أن المجتمعات تمثل بنية نهائية ومكتملة النمو، قابلة للخضوع والاستجابة لمقتضيات المؤسسات السياسية التي تحرص على استمرارية التقاليد الدولية، من دون استحضار التطورات الفجائية الحاصلة داخل هذه المجتمعات. ولعل الفيلسوف الألماني آكسيل هونيث أصاب كبد الحقيقة عندما أكد على أهمية ما أسماه «الكفاح من أجل الاعتراف» الذي يفسّر قسماً كبيراً من الصراعات الاجتماعية، لأن السياسي الذي يناضل من أجل تحقيق أكبر قدر من العدالة ومن التوزيع المنصف للحريات، يغفل أهمية الكفاح المجتمعي في سبيل بلوغ مستوى متقدم من «الحياة الجيدة». إننا في واقع الأمر، في مواجهة صراعات يستحيل كسب رهانها إذا اعتمدنا على جسد يمشي برِجل سياسية واحدة، مغفلاً بذلك إعادة الاعتبار للرِّجل الاجتماعية المبتورة التي من شأنها أن تعيد التوازن المطلوب إلى هذا الجسد العليل.