السياسة لا تنفصل عن التاريخ، والحديث عن مدينة حلب، وهي ثاني أكبر المدن السورية، وأهمها اقتصادياً واستراتيجياً، يخلق لديك فضولاً لتدخل أعماق هذه المدينة، وبمجرد وضع اسمها في محرك البحث «غوغل» ستجد نفسك خارج السياسة وقريباً من التاريخ العريق، فتتعرف إلى التنوع السكاني الذي يعكس تناغم الأعراق، كما تتعرف إلى الاقتصاد والمعمار والآثار، ويقودك إلى الدخول إلى أكبر وأقدم سوق حيوي في العالم، الذي يبلغ طوله 16 كلم. أما إذا انهمكت في التعرف إلى الآثار، فإنك لن تنتهي أبداً، ويقودك الفضول إلى مشاهدة أفلام وصور، ليصل بك الأمر إلى التعرف على مدينة حلب، ما قبل وما بعد، لتقع فريسة صدمة وربما نوبة بكاء.
فالمدينة تبدو وكأنها تعرضت لتدمير ممنهج، واتباع سياسة الأرض المحروقة، وأقل وصف يمكن استخدامه هو أن المدينة تبدو وكأنها تعرضت لقصف بقنابل ذرية، وتذكرك فوراً بقصف مدينة هيروشيما اليابانية والدمار الذي حل بها، وتخرج بنتيجة أن الحديث السياسي عن مدينة حلب ومستقبلها بعد استعادتها من قبل النظام السوري وحلفائه أمر في غاية الإرباك، وقد لا يعني للذاكرة شيئاً، إذ ماذا تعني السيطرة على مناطق سويت بالأرض، وماذا يعني الانتصار ورفع العلم على أنقاض الدمار؟
الحديث العاطفي شيء، ومصالح اللاعبين والسياسيين شيء آخر، فالعاطفة تتحدث عن الجمال والعمران والتاريخ والسكان والثقافة، بينما السياسيون والعسكريون يتحدثون عن مساحات محررة واجتياحات وتقدم واستراتيجيات، والمدنيون أو حتى القتلى من العسكريين هم مجرد أرقام أمام نشوة النصر والتصريحات المبهرجة الفارغة. فالمنتصرون يتحدثون عن إفشال تحويل البلاد إلى إمارات للمتطرفين المتشددين والتكفيريين، وعن إفشال المخطط التركي الرامي إلى ضم مدينة حلب، ولا سيما أن المدينة لا تبعد أكثر من خمسين كيلومتراً عن الحدود التركية، واستعادتها من المسلحين أو (المعارضة) يشكل هزيمة لتركيا وسياساتها في المنطقة، بعد أن فتحت حدودها لآلاف من المقاتلين المتطرفين، ليمارسوا القتل والذبح والتدمير. ولهذا فإن السيطرة على مدينة حلب يعني قطع الإمدادات عن المسلحين، وتأمين طريق دمشق حمص حلب الرئيسي. ويتحدث المنتصرون أيضاً عن هزيمة المخطط الأمريكي «الإسرائيلي» في جعل البلاد تضيع في أتون فوضى عارمة وعدم استقرار، وبالتالي صمود «جبهة المقاومة» والتصدي للسياسات الصهيونية. فهل السيطرة على حلب تعني الانتصار في الحرب السورية، أو كما يقول البعض تعني الانتصار بنسبة 50% في الصراع الذي بدأ منذ أكثر من خمس سنوات؟ إجابة السؤال من وجهة نظر النظام، الذي يرى أن السيطرة على حلب هو ربحُ المعركة، تختلف عن الواقع كثيراً، فالأزمة السورية وخريطة الصراع أكبر من مجرد احتلال مناطق مدمرة، وما لم يدمر فهو آيل للسقوط، ولو كان الأمر كذلك لما شهد العراق كل هذا الدم والدمار منذ احتلال بغداد عام 2003 وإسقاط نظام صدام حسين، لأن احتلال المدينة كان بداية لدخول العراق مرحلة اللااستقرار التي لا يزال يعيشها حتى الآن، وتعقدت أكثر مع ظهور تنظيم «داعش» كنبت شيطاني، ليحشد العالم قواته وحاملات طائراته وأساطيله في الخليج العربي والبحر الأبيض المتوسط، لمحاربة تنظيم يثير جدلاً سياسياً وعسكرياً واستراتيجياً وفكرياً، وفضح سياسات دول عديدة كانت تدعمه
الدكتور خطار أبو دياب، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة باريس وعضو المركز الدولي للجيوبوليتيك، قال في تصريحات لDW عربية، «إن الاعتقاد بأن من يسيطر على حلب سينتصر في الحرب أمر مبالغ فيه، صحيح أن النظام بسيطرته على حلب سيسيطر على الخط من دمشق مروراً بحمص واللاذقية إلى حلب، وهذا مهم بالنسبة له وتخشاه المعارضة، لكن ذلك لا يعني حسم الحرب فسوريا أكبر من حلب، والفوز في الحرب لا يكون بعدد الكيلومترات المسيطر عليها، وإنما بإيجاد حل سياسي إنساني».
[bctt tweet=”السيطرة على مدينة حلب ليست نهاية اللعبة” via=”no”] إلا في حالات يمكن ذكرها بالآتي:
أولاً: الاتفاق الروسي الأمريكي بنوايا سليمة على دحر المسلحين، والقضاء على بنيتهم التحتية، وخطوط الإمداد والتمويل والتسليح، والتنسيق الفعال فيما بينهم لاقتلاعهم من جذورهم وإيقاف نموهم، وقبل هذا لا بد من الاتفاق على مناطق النفوذ ورسم مستقبل جديد للمنطقة يحافظ على وحدة الأراضي السورية.
ثانياً: الاتفاق العربي على محاربة التنظيمات والجماعات المتطرفة ووقف الدعم المالي والعسكري عنهم.
ثالثاً: إجراء مصالحات واسعة النطاق تشمل كافة الأراضي السورية، بين النظام السوري والمقاتلين السوريين الذين يجب استيعابهم بطرق مدروسة، وعدم الانتقام منهم لاحقاً، لأن ذلك سيثير الحقد من جديد على النظام.
رابعاً: إجراء تغييرات جذرية في بنية النظام السوري وفتح الطريق أمام مشاركة جميع الأطياف، وعدم الاقتصار على «حزب البعث» في الحكم، وهذا لن يتحقق إلا بتنظيم انتخابات شفافة وحقيقية.
خامساً: البدء في إعمار سوريا وعودة النازحين والمهجرين إلى ديارهم.
سادساً: القيام بحملات مستمرة لإجراء مصالحة اجتماعية وسياسية وعرقية ومذهبية بين المتحاربين.
ويبقى العنصر الإيراني ودوره في كل ما تقدّم، وهذا يحتاج إلى بحث خاص ومفصل، وقد يكون العنصر الأخطر في أي تسوية، فالأجندة الإيرانية قد لا ترى في الاستقرار مصلحة لها، إلا إذا حصلت على جزء كبير من الكعكة.