أفصح فوز فرانسوا فيون في الانتخابات التمهيدية للرئاسة الفرنسية على غريمه آلان جوبيه، عن جملة من الملامح المهمة التي يمكنها أن تسم السياسة الخارجية الفرنسية المقبلة بميسمها في حال فوز مرشح يمين الوسط بمنصب الرئاسة، وبخاصة ما يتعلق بملفات العلاقة مع الولايات المتحدة وروسيا ودول الشرق الأوسط وفي مقدمها سوريا. إذ إنه وعلى خلاف جوبيه الذي كانت تشير تصريحاته بأنه يمثل نوعاً من الاستمرارية في خط السياسة الفرنسية الراهنة، فإن مواقف فيون السياسية بدت قريبة إلى حد بعيد من مواقف أغلب الأحزاب الأوروبية اليمينية وعلى رأسها أحزاب أقصى اليمين ذات التوجهات الشعبوية، وتحديداً فيما يتصل بالعلاقة مع موسكو وملفات الشرق الأوسط. حيث وجّه فيون انتقادات عنيفة للسياسة الخارجية الفرنسية المتبعة حاليا من طرف الرئيس هولاند، ووصفها بعدم الانضباط، وقال عنها إنها لا تخدم المصالح العليا للدولة الفرنسية وتشكل تهديداً للأمن القومي الفرنسي، كونها لا تتعامل بالجدية الحاسمة والمطلوبة مع ملف مكافحة الإرهاب في سوريا والعراق.
ويرى بعض المهتمين بشؤون السياسة الفرنسية، أن مواقف فيون أثناء الحملة الانتخابية التمهيدية، موجهة في قسم كبير منها نحو الناخب الفرنسي المستاء من السياسة الحالية لليسار الفرنسي على المستويين الداخلي والخارجي، حيث اتسمت مرحلة حكم الرئيس هولاند بضعف كبير أدى إلى فقدان فرنسا للكثير من مواقعها في أوروبا وبقية أنحاء العالم. وكان لافتاً وجود إحالات متكررة في خطابات فيون إلى المرحلة الديغولية، وذلك في إشارة واضحة منه إلى رغبته في إعادة أمجاد السياسة الخارجية الفرنسية المنتهجة في عهد شارل ديغول. حيث رد فيون على منتقديه، فيما يتعلق برغبته في فتح صفحة جديدة في العلاقات ما بين باريس وموسكو، بقوله لقد كانت لديغول سياسة إيجابية اتجاه الاتحاد السوفييتي ولم يتهمه أحد بالانتماء للشيوعية، وكان أول رئيس دولة غربية تقيم علاقات دبلوماسية مع الصين الشيوعية سنة 1964 دون أن يقال إنه أصبح ماويا. وأكد فيون في السياق نفسه، على أن ما يشغله ليس هو المحافظة على علاقة التحالف التقليدي مع واشنطن، ولا مسألة نسج علاقات جديدة ومتميزة مع روسيا، ولكن اهتمامه الرئيس سيكون منصباً على الدفاع عن المصالح العليا لفرنسا أولا وقبل كل شيء.
وبالرغم من كل هذه التصريحات القوية والمثيرة للجدل، التي عبّر عنها فيون في ما يتعلق ببعض ملفات السياسة الخارجية الحساسة، فإن حدود التغييرات المحتملة في التوجهات الدبلوماسية لباريس تبقى محدودة إلى حد بعيد، لاسيما إذا أخذنا في الحسبان أن فيون كان رئيساً للوزراء في عهد نيكولا ساركوزي الذي كانت له مواقف حاسمة حتى لا نقول متشددة تجاه النظام في دمشق. وهذا ما يفسّر في رأي بعض المراقبين اتسام مواقف فيون الأخيرة وتصريحاته بشأن الأزمة في سوريا بنوع من التناقض، عندما سعى لأن يدفع عن نفسه تهمة الدفاع عن نظام الرئيس السوري بشار الأسد، مع تأكيده في السياق نفسه أن الأولوية الكبرى بالنسبة لهذا الملف الشائك تتعلق بمحاربة تنظيم «داعش»، وليس تغيير النظام في سوريا. وتشير هذه المعطيات إلى أن جزءاً من التخبط الحاصل حاليا في السياسة الفرنسية اتجاه سوريا سيظل قائماً في عهد فيون، لأن هناك أوساطاً عديدة، سبق لها أن أشارت إلى وجود نوع من التنسيق الاستخباراتي بين دمشق وباريس فيما يتعلق بتبادل المعلومات بشأن الإرهابيين الأوروبيين لاسيما الفرنسيين منهم، الذين يقاتلون في صفوف التنظيمات الإرهابية في سوريا، وذلك تزامنا مع الخطاب التصعيدي الذي تروِّج له باريس إعلامياً ضد حكومة بشار الأسد.
أما تصريحات فيون المتعلقة بعلاقة بلاده مع بعض الدول العربية التي يتهمها بإيواء بعض «المتشددين» الذين «يحرّضون» على خطاب الكراهية، فهو موجّه كما أسلفنا نحو الاستهلاك الداخلي ومن أجل استقطاب جزء من أنصار أقصى اليمين، الذين يروِّجون لخطاب عدائي تجاه دول عربية بعينها؛ وتستهدف تلك التصريحات دفع شبهة المواقف الغامضة التي تُتهم الطبقة السياسية الفرنسية بأنها تتبناها في مواجهة الخطاب الديني المتشدد الذي تسبب في وقوع الكثير من العمليات الإرهابية القاتلة فوق التراب الفرنسي. وبالتالي فإن العلاقات الاستراتيجية وخاصة العسكرية والاقتصادية التي تربط فرنسا ببعض الدول العربية مثل مصر ودول مجلس التعاون الخليجي، تجعل النخب السياسية الفرنسية، تحرص كل الحرص على المحافظة على هذه العلاقات التي تمثل رهاناً أساسيا بالنسبة للجانب الفرنسي، وذلك بصرف النظر عن هوية المتربع على عرش الإليزيه.
وتجدر الإشارة في الأخير إلى أن ردود الأفعال التي أثارها فوز فيون في انتخابات اليمين، تشير إلى أن [bctt tweet=”معركة الرئاسة المقبلة ستعرف صراعاً شرساً واستقطابا حاداً بين مختلف التشكيلات السياسية” via=”no”]، وقد حرص فيون من جهته على تدشين معركته الانتخابية من خلال تحديد خصومه السياسيين الرئيسيين في المرحلة المقبلة، انطلاقا من الحديث عما أسماه، «فشل وإخفاق اليسار وإفلاس اليمين المتطرف».