الجَامِعَة، ذَلك الصَّرح الكَبير، المَحشو بالأَسَاتِذَة والطُّلَّاب، لَم يَعُد حَقلًا مَرغوبًا عِند البَاحثين، ولَا أَعلَم مَا السَّبَب؟، هَل لأنَّ الجَامِعَة فَقدَت وَهجهَا؟، أَم أَنَّها أَصبَحت تُخرِّج أُنَاسًا عَاطلين عَن العَمَل؟، مُشكَّلين دَاخل قَوالب، كَأنَّها عِلب «تونة»، صَغيرة بَسيطة، لَا يَعلم مَن هو خَارجها؛ مَا يَدور بدَاخلها.. ولَا يَعلم مَن هو بدَاخلها؛ مَا يَدور خَارجها..!
وأَعتَقد أنَّهم حِين أَطلقُوا لَفظ «الحَرَم الجَامعي»، كَانوا يَعتبرونه مَكانًا مُقدَّسًا، يَعجُّ بالمِثَاليات، وكَان الدّخول مَحظورًا عَلى غَير أَهله..!
كُنتُ أَظنُّ أَنَّ هَاجس الابتعَاد عَن الجَامِعَة؛ دَاءٌ عَرفجي خَاصٌ بِي، ولَكن حِين تَأمَّلتُ الوَاقِع، وتَوسَّعتُ في الاطلَاع عَلى المَرَاجِع، وَجدتُ أنَّ شيخ الكُتَّاب، أُستَاذنا «أنيس منصور»، قَد بَدَأ هَذه الحَملَة -أَعنِي حَملة الابتعَاد عَن العَمَل في الجَامِعَة-، حَيثُ يَقول «أنيس» في كِتَابه «مَعنَى الكَلَام»: (قَال لِي الفَيلسوف الدّنمركي «كيركجور»، وهو أَبو الفلسفة الوجُوديَّة: الجَامِعَة لَا يَدخلها جَرسٌ يُوقظ النَّائمين، ويَقضُّ مَضجع الجَامدين.. اهرب بجِلدَك مِن الجَامِعَة وانقَلِبْ عَليهَا)..!
وفي مَوضعٍ آخَر مِن نَفْس الكِتَاب، يُضيف شَيخنا «أنيس منصور» قَائلًا: (قَال لِي العَقَّاد: إذَا أَردتَ أَنْ تَكون شَيئًا مَذكورًا، ابْعد عَن صنَاعة إعدَام الفِكر والمُفكِّرين، ويَعني بذَلك الجَامِعَة)..!
ثُمَّ يَختم أُستَاذنا «أنيس» فَلسفته حَول الجَامِعَة، قَائلًا: (لَم يَكن في نيَّتي أَنْ أَستَمر مُدرِّسًا للفَلسفَة في الجَامِعَة، فقَد اختَرتُ حُريّتي؛ فِي أَنْ أَكُون أَديبًا حُرًّا يَعمل في الصَّحَافَة، وفَضّلتُ ذَلك عَلى التَّدريس فِي الجَامِعَة، مِمَّا أَغضَب كُلّ أَسَاتذتي: «عبدالرحمن بدوي، ولويس عوض، وشوقي ضيف، وعبدالوهاب عزَّام، ومصطفى عبدالرزَّاق، وطه حسين»، وكَان ذَلك سَبَبًا في سَعَادة «العَقَّاد، وتوفيق الحكيم، والشاعر إبراهيم ناجي، وأم كلثوم، وعبدالوهاب»)..!
حَسنًا.. مَاذا بَقي؟!
بَقي أَنَّ هَذا رَأي شَيخنا «أنيس منصور»، والمَجال مَفتوح للمُنَاورة والمُنَاظرة، فمَن لَديه اعترَاض مِن أَسَاتِذَة الجَامعة المُوقَّرين، فليُرسل لِي، ولَه مِنِّي الشُّكْر والنَّشْر..!!