نون والقلم

الخطاب الشعبوي بين ضفتي الأطلسي

كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن تزايد قوة وانتشار تيارات اليمين واليمين المتطرف في كل من أمريكا الشمالية وأوروبا، وتزامن هذا الانتشار مع صعود نجم الخطاب الشعبوي الذي عادة ما ينصّب نفسه كمتحدث باسم الشعب في مواجهة النخب المهيمنة على اختلاف مجالات وأماكن انتشارها في سياق المشهد السياسي والإعلامي للدول الكبرى.

وقد أخذ الخطاب الشعبوي في إثارة مزيد من المعالجة الفكرية والسياسية، كونه يمثل المهماز النظري الذي بدأت تعتمد عليه قوى اليمين المتطرف من أجل إعادة التموقع في سياق الخريطة السياسية في الديمقراطيات الغربية العريقة، متوسّلة في تحقيق هدفها العمل على استثمار تبعات الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها الطبقات المتوسطة، من أجل إعادة إحياء النزعات الانعزالية داخل المجتمعات التي حققت مستويات عالية من الانفتاح على الآخر المختلف، بفضل تقدمها الفكري والثقافي والتكنولوجي الذي أنجزته خلال العقود الأخيرة.

ويمكن القول إن الارتباط الراهن الذي نلحظه ما بين مفهوم الشعبوية وتيار أقصى اليمين، لا يعني البتة أن الشعبوية ملتصقة باليمين أو متصلة به بشكل حصري، بل العكس هو الصحيح فقد ظلت الشعبوية مرتبطة إلى حد بعيد بقوى اليسار وبالاشتراكية التي كانت تريد الاعتماد على السكان الفقراء والفلاحين من أجل بناء مجتمعها المثالي، وكانت متعارضة بهذا المعنى حتى مع الماركسية- اللينينية التي سعت إلى بناء نموذجها المجتمعي من خلال الارتكاز على قاعدة البروليتاريا العمالية. بيد أن تراجع الأيديولوجيات اليسارية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فتح الأبواب على مصراعيها من أجل استثمار قوى اليمين المتشدد للخطاب الشعبوي في مواجهة خصومها السياسيين؛ وبالتالي فإن امتداد مفهوم الشعبوية نحو وضعيات تاريخية مختلفة يجعل من الصعب وضع تعريف متعلق بالخصائص والسمات التي تسمح بتمييزه بشكل دقيق في سياق نسق الأنظمة والتيارات السياسية المختلفة.

وهذه الدعوة القائمة على تمجيد الشعب التي تميّز الخطاب الشعبوي تتميز بشكل أساسي بكونها تتخلى عن الوظيفة التي تعتمد على ممارسة النشاط السياسي وفق برامج محددة من طرف الفاعلين السياسيين، الذين يستعيضون عن تلك البرامج بخطاب طنان يسعى إلى التضخيم مما يصفه ب«التطلعات الشعبية»، بهدف التحكم بشكل أفضل في مشاعر وعواطف الأتباع، وصولاً إلى فرض نظام يحمل صبغة تسلطية واضحة.

ويسعى هذا الجنس من الخطاب السياسي إلى الإعلاء من قيمة الشعب في مواجهة السياسة المؤسساتية القائمة المتهمة بالفساد والمحسوبية، لتقف بذلك فضائل الشعب في تقابل وتعارض مع «مؤامرات» النخب السياسية والمالية المهيمنة، التي تحاول «الإساءة» للشخصية الكاريزمية التي تتحدث باسم هذا الشعب وتدافع عن خصوصياته الثقافية والعرقية في مواجهة النزعات الهادفة إلى طمس هذه الخصوصيات.

ويرى بعض المحللين في السياق نفسه أن الشعبوية الحالية المرتبطة بتيارات اليمين عبر ضفتي الأطلسي، يمكن وصفها بالشعبوية الجديدة بالنظر إلى العناصر المستحدثة التي باتت تتميز بها قياساً مع الشعبوية التي ظهرت خلال القرن التاسع عشر، حيث تعتمد الشعبوية في نسختها الجديدة على صياغة بلاغة عنصرية تحذر الشعب من التهديدات التي يمثلها الغرباء والأجانب على هويته. ويسهم هذا النوع من البلاغة في زيادة حدة الاستقطاب الهوياتي ما بين المكونات الثقافية والعرقية والدينية داخل المجتمع الواحد، حيث يزدهر هذا النوع من الخطاب في زمن التحديات الكبرى والأزمات الداخلية التي تواجهها المجموعات السكانية المختلفة.

وعليه فإن توظيف هذا المفهوم في مجال التحليل السياسي، يجب أن يقترن بحذر منهجي كبير نتيجة للمغالطات الكثيرة التي يستدعيها في سياق استعمالاته المتعددة، من منطلق أن تهمة الشعبوية بالإمكان إلصاقها من طرف الأوساط الأيديولوجية المعارضة، بكل تيار يستطيع أن يستقطب فئات كبيرة من المواطنين على قاعدة شعارات جذابة قادرة على إثارة اهتمام شرائح واسعة من الشعب. وذلك من منطلق أن فخ الشعبوية يمكن أن يقع في شراكه كل تنظيم سياسي عندما يعجز عن ضبط المعادلة السياسية الدقيقة التي تربط ما بين الشعب ومؤسساته ونخبه التي تسهر على رسم سياساته الخاصة، بمباركة وتفويض من هذا الشعب نفسه.

ونستطيع أن نخلص في نهاية هذه العجالة، إلى أن أحزاب اليمين المتطرف لا يمكن أن نعدّها رمزاً للشر المطلق، بحسب الصورة القاتمة التي يرسمها المناوئون، مثلما أن خصومها ليسوا رمزاً للخير المطلق. صحيح أن خطابات اليمين في أوروبا والولايات المتحدة يغلب عليها طابع الإقصاء وشيطنة الآخر وكراهية الأجنبي والمهاجر، لكن هناك مجالات كثيرة يبدو فيها خطاب اليمين أشد تمسّكاً بالقيم الوطنية، وأكثر رفضاً لقيم العولمة التي تهدد الوجود المؤسسي للدول القومية، وفضلاً عن ذلك فإن خطاب اليمين وبخاصة في أوروبا، يتميّز بكونه أبرز الخطابات الغربية دفاعاً عن مصالح الشعب الفلسطيني، وأشدها انتقاداً للسياسات الصهيونية والأمريكية في منطقة الشرق الأوسط.

 

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى