بدأت فتنة الدولة في الحضارة العربية مع التأويل السياسي الذي مارسه الخوارج وغلاة المذاهب الفكرية للنص الديني بأسلوب قادهم إلى تكفير مخالفيهم واستباحة دمائهم وأعراضهم وأموالهم. ويصل الأمر بالمسلمين الآن إلى محنة جديدة بدأت تعايشها الدولة الوطنية في مواجهتها لتطرف جماعات الإسلام السياسي و”الدواعش” الذين يسعون إلى القضاء على هوية الدولة وعلى مرجعياتها الوطنية اعتماداً على الأدوات التدميرية نفسها التي جرى توظيفها مع فجر الإسلام، والتي ترفض الاختلاف وتسعى إلى القضاء على التنوع الفسيفسائي الزاخر الذي يُميِّز المنطقة العربية ويمثل أحد أبرز عناصر هويتها الثقافية والتاريخية، وإذا كانت الفتنة في صورتها الأولى قد هدّدت عقيدة المسلمين وشكلت خطراً كبيراً على وحدة الإسلام والمسلمين، في مدة كانت العقيدة في بداية انتشارها وتواجه تحديات كبرى من قبل العقائد الأخرى المناوئة، فإن المحنة الراهنة، حتى وإن كانت ترتدي عباءة الدين، فإنها تشكل خطراً أكبر على الدولة الوطنية التي لم يستقم عودها حتى الآن، وتواجه خطر التفتت والانقسام.
ظهر الخوارج في زمن الإمام علي بن أبي طالب، ورفعوا «شعار الحكم لله لا للرجال»، بعد رفضهم لقبول الإمام علي بمبدأ التحكيم وأكدوا أن الحق حق الله وخرجوا عليه واتهموه بالكفر، وأعلنوا بعد ذلك أن الإيمان لا ينفصل عن العمل، وتوصلوا إلى نتائج خطرة من بينها أن الفاسق غير مؤمن، وأن كل من يخالفهم في فكرهم ومذهبهم يعتبر فاسقاً لا صلة له بالإيمان ويحلّ قتله وقتل أطفاله واستحلال نسائه. وقد استطاع الخوارج أن يستدرجوا قسماً معتبراً من المسلمين، نحو عقيدتهم الفاسدة، نظراً لافتتان العوام بالعنف والتطرف، وارتكبوا جرائم مروعة في حق كل مخالفيهم، حيث استند الخوارج إلى ثوابت وأصول دينية ظاهرها الصدق وباطنها الإفك والبهتان.
وهكذا فإن الشعار القائل إن «الحكم لله» كان بمثابة كلمة حق أريد بها وما زال يُراد بها باطل من زمن الخوارج وصولاً إلى عهد “الدواعش” ومن سار على دربهم في عصرنا هذا، الذي تواجه فيه الحضارة العربية الإسلامية تحديات عصيبة نتيجة لحماقات الداخل ومؤامرات الخارج. ويعتمد خوارج الأمس واليوم على حديث «الفرقة الناجية» الذي أسال الكثير من الحبر لدى العديد من الفقهاء والمفكرين المسلمين الذين يذهب قسم منهم إلى أن هذا الحديث لم تثبت صحته بشكل قطعي، وبالرغم من ذلك فقد نسبت كل فرقة نفسها إلى هذه «الفرقة الناجية». وكان الخلاف في أصوله وما زال مرتبطاً بمسألة الإمامة وكل ما تعلق بممارسة السلطة السياسية، وبرزت اجتهادات حديثة ومتعددة تناولت مسألة الإمامة من منظور يسعى إلى تجاوز النقاشات الفقهية التقليدية، وتزعم أن كتاب «الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبد الرازق يمثل أبرز المحطات الفكرية التي استأنفت التنظير في مسألة الحكم اعتماداً على مقاربة جديدة.
يمكننا القول في السياق نفسه إن دخول المجتمعات العربية الحديثة مرحلة الحداثة السياسية مع إرسال البعثات العلمية، إضافة إلى بروز كوكبة من المفكرين الإصلاحيين والتنويريين ونشوء الأحزاب السياسية الحديثة، مثلت في مجموعها جملة من العناصر الحاسمة التي أدت إلى إعادة صياغة تصوراتنا العربية والإسلامية المتعلقة بنموذج الدولة وطبيعة نظام الحكم، وشكلت مراحل الاستقلال السياسي، بالنسبة لأغلب الدول العربية، عن الاستعمار لحظة حاسمة في ترسيخ نموذج الدولة الوطنية، التي حمل لواءها قوافل من الشهداء الذين قاوموا باستماتة وبسالة مشاريع الاستعمار وحملوا في وعيهم ووجدانهم حلم الدولة الوطنية الحديثة ، قبل أن تبدأ موجات الردة السياسية المناوئة للدولة الوطنية في البروز من خلال كتابات ومصنفات أقطاب جماعة الإسلام السياسي، التي سعت إلى التشكيك في الحدود الجغرافية للدول وإلى إضعاف الحس الوطني لدى أتباعها، من خلال تنكّرها لقيم الإخاء الوطني وتشجيعها على الصراع المذهبي والديني داخل الدولة الواحدة.
وبدأت تظهر تدريجياً مشاهد العنف والكراهية تجاه كل ما هو مختلف، وكاد أن يتحوّل الوطن إلى مجرد تجمعات سكانية هلامية مشتتة لأفراد لا يؤمنون كثيراً بقيم وفضائل المواطنة المشتركة التي يُنظّمها ويحميها عقد اجتماعي متعارف عليه، وباسم الهوية الدينية الواحدة التي تحوّلت إلى ما يشبه «قميص عثمان»، تقلّصت مساحات الهويات الوطنية الجامعة، وتبلورت هويات مشبوهة تبحث عن التميّز الفارغ باسم العرق والطائفة والقبيلة.
لا شك لدينا في أن من يحاربون الدولة الوطنية، يحاربون في اللحظة نفسها الدولة المدنية القائمة على المواطنة المتساوية ما بين جميع الأفراد، ويحاربون أيضاً نموذج الدولة الاجتماعية التي تضمن الحد الأدنى من المساواة بين المواطنين في مجال الصحة والتعليم ومناصب الشغل، لذلك فإننا لا نستغرب عندما نجد أن رجال الأعمال الوطنيين ورموز البرجوازية المتنورة- بالرغم من ندرة هذه الرموز وتواضع مستوى أدائها في أغلب الدول- تسعى جاهدة من أجل الدفاع عن الدولة الحديثة وتسهم في التنمية المحلية وفي دعم مشاريع الشراكة ما بين الدول العربية، في الوقت الذي يحرص فيه أصحاب التهريب والسوق الموازية من رجال الأموال ومروجي المخدرات على دعم الجماعات المسلحة وعلى تهريب الأموال من أجل توظيفها في مشاريع القتل والجريمة وتفتيت وحدة المجتمعات والدول، وينظرون إلى مسألة دفع مستحقاتهم من الضرائب على أنه نوع من الدعم لما يصفونه ب«الطاغوت»، وبالتالي فإن من مفرقات العولمة الاقتصادية التي تدافع عنها الدول الكبرى، هو أنها أصبحت تشجّع على تهريب رؤوس الأموال وتعمل على تقليص الموارد الجبائية والضريبية للدول الوطنية وتُسهم في عجزها عن الإيفاء بالتزاماتها ومسؤولياتها الاجتماعية، وبخاصة بعد أن تحوّل جزء معتبر من رؤوس الأموال العالمية العابرة للدول إلى رؤوس أموال إجرامية، تهدّد استقلالية الدول وتدعم التنظيمات الانفصالية والإرهابية في أكثر من منطقة.
يمكننا القول في نهاية هذه الإطلالة السريعة إن هناك عناصر شبه كثيرة ما بين اليوم والبارحة، بالأمس كان الخوارج يدقون أول مسمار في نعش الإمبراطورية الإسلامية الوليدة، واليوم يعمل “الدواعش” وأمثالهم من جماعات القتل والتكفير، من أجل التمكين للمشروع الصهيوني الهادف إلى القضاء على وحدة الدول العربية وتقسيمها إلى إمارات جزيئية معزولة يحارب بعضها البعض الآخر، وبين زمان الفتنة البائدة وزمان المحنة الحادثة يدفع أجيال من الشباب العربي أثماناً باهظة من دمائهم وتطلعاتهم لتجار يخطفون أحلام شعوبهم ويلقون بها في مزابل التاريخ.
نقلا عن صحيفة الخليج الاماراتية