تغيّرات عدة ومذهلة بدأ يعرفها العالم خلال العقود القليلة الماضية، أخذت تتبلور وتأخذ أبعاداً خطرة مع نهاية الحرب الباردة، لتصل إلى مستوى الفوضى الكاملة مع قيام جورج بوش الابن باحتلال العراق وتجسيد مقولة الحرب الاستباقية، بكل أبعادها التدميرية والكارثية على دول المعمورة بشكل عام وعلى منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص. حيث استطاعت العولمة الأمريكية أن تفرض، في المرحلة السابقة، مجمل تصوراتها وشروطها على الأصدقاء والأعداء على حد سواء، وبلغ هذا المسار مداه مع بروز الأزمة الاقتصادية العالمية سنة 2008، لتجد الولايات المتحدة نفسها عاجزة، مع باراك أوباما، عن مواصلة فرض أجندتها. وعليه فقد بات الأمريكيون يشعرون مع ترامب أنهم مجبرون على لجم، ولو جزئياً وربما مرحلياً، جموح حصان العولمة الذي كان مخططاً له أن ينفرد بقيادة العالم من دون منازع.
وقد بدا للكثير من المتابعين للانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، أن انهزام هيلاري كلينتون يمثّل تراجعاً في نفوذ تيار العولمة الجارف، ورأوا في انتصار ترامب مؤشراً لعودة القيم الوطنية والمحلية القائمة على الاستقطاب الهوياتي، في مواجهة الهيمنة الطاغية لقيم العولمة التي تطمس الهويات الدينية والعرقية. وفضلاً عن ذلك فإن ما يثير الاستغراب في هذه المعادلة الجنونية، هو أن الديمقراطيين الأمريكيين كانوا قد أقلعوا بقطار العولمة السريع مع بيل كلينتون؛ بينما يسعى الآن تيار جديد من الجمهوريين، إلى التقليص من سرعة هذا القطار حتى لا يصل إلى إلغاء كل التمايزات والاختلافات الثقافية والعرقية التي ما زال يتمسك بها الرجل الأبيض وغلاة «حزب الشاي».
ويمكننا أن نتساءل في هذا السياق، عمّا إذا كان حكم ترامب سيؤسّس لمرحلة مغايرة ولعهد جديد يمكن وصفه ب «السلم الاستباقي»، بعد أن دشّن الجمهوريون مع بوش عهد «الحروب الاستباقية»، في زمن الأحادية القطبية المدمرة.
وبالتالي فليس من باب المصادفة العابرة، أن يذهب الرئيس الأمريكي الجديد في أول لقاء صحفي يجريه مع الإعلام المحلي والدولي مباشرة بعد انتخابه، إلى القول إنه لا يريد محاربة روسيا وسوريا ، ولكنه يسعى فقط إلى مواجهة الإرهاب، الأمر الذي يعني أن ترامب ما زال وفياً لجانب ولو بسيط من عهوده الانتخابية، وليست له نية لإحياء مشاهد الحرب الباردة وتأجيج الصراع مع روسيا بشأن الملفات المتعلقة بالشرق الأوسط وأوكرانيا؛ كما أن مقاربته لأهمية الحلف الأطلسي تعتبر مختلفة تماماً عن مقاربة كل الرؤساء الأمريكيين السابقين، الذين كانوا ينظرون إلى الناتو بوصفه يمثل الذراع العسكرية التي تحاول من خلالها واشنطن بسط هيمنتها على الجغرافيا السياسية للعالم.
وتأتي في زعمنا أهمية مفهوم «السلم الاستباقي» الذي نسعى إلى الترويج له في هذا المقام، من منطلق أن العالم لم يعد قادراً خلال العقود المقبلة على مواجهة الشر بالشر، ومن الأهمية بمكان العمل على تضافر جهود المجتمع الدولي من أجل تحديد ومحاصرة المناطق الرمادية التي من شأنها أن تتحوّل خلال السنوات المقبلة إلى بؤر جديدة للصراع، لأنه لن يكون من المفيد آنئذ معالجة الحروب بحروب مضادة، لاسيما أن القوة العسكرية الأمريكية عجزت عن مواجهة تبعات احتلالها لأفغانستان والعراق، وعوض أن تخرج منتصرة من هذه الحروب التقليدية الصغيرة، فإنها فقدت الكثير من هيبتها وقدرتها الردعية، وأصبحت بعض القوى الإقليمية الحليفة والمتخاصمة معها على حد سواء، تتحدى نفوذها وتسعى إلى الدفاع عن أجنداتها الوطنية والإقليمية المستقلة.
ونستطيع القول بناءً على ما تقدم إن العمل الاستباقي الموجّه نحو المناطق الرمادية، يطمح إلى بعث مسار شامل ينطلق من العمل الهادف إلى استعادة النظام وإعادة تأهيل السلطة الشرعية في الدول المهددة بالفشل المؤسساتي، من خلال تشجيع عملية إعادة البناء الاقتصادي الذي من شأنه أن يُسهم في تحقيق التنمية المستدامة بغرض استعادة السلم المجتمعي. كما يهدف هذا العمل إلى تفعيل عمل أجهزة الدولة السيادية القادرة على مساعدة دول المناطق الرمادية من أجل بسط سلطتها على كامل ترابها الوطني؛ فمن الأهمية بمكان بالنسبة للقوى الكبرى والمجتمع الدولي، أن يتم تفعيل عمل مؤسسات الدول المرشحة للفشل قبل أن تتسع دائرة الفوضى ويتحوّل العالم برمته إلى مخيم كبير للاجئين. وبالتالي فإن وجود هذه الرغبة الملحة في الاستباق هي التي يمكنها أن تفسّر هذا الحرص الذي بتنا نلفيه لدى عديد الدول من أجل تطوير منظوماتها التقنية في مجال الاتصال والمعلومات، لأن إمكانية الفعل الاستباقي تظل مرتبطة بتوفر منظومة مكتملة وشاملة من المعلومات الدقيقة حول ما يحدث من تطورات على مستوى المناطق الرمادية، وذلك ما حدا بالكثير من الدول العظمى إلى تحديث بنيات الاستعلامات الجغرافية المعتمِدة بشكل أساسي على الأقمار الصناعية المتطورة.
ولا مندوحة من الاعتراف في الأخير، أن نجاح معارك «السلم الاستباقي» في مواجهة حروب الجنون والفوضى الاستباقية، يتطلب أكثر من مجرد توفير إمكانات تقنية ولوجستية متطورة، إذ يستوجب الوضع الدولي الراهن العمل على بناء استراتيجية دولية قوية من أجل إحلال قيم السلم والتسامح في مختلف مناطق الحروب والنزاع، والسعي في اللحظة نفسها من أجل تشكيل آلية تشاركية جديدة تسمح بإعادة تفعيل مؤسسات الدول المتهالكة في المناطق الرمادية التي بدأ مجالها يتسع بشكل مخيف، وبخاصة أن الحروب المجتمعية والداخلية هي أخطر بكثير من الحروب التقليدية التي تحدث ما بين الدول.