تابع العالم كما الداخل الأمريكي أجواء الانتخابات الرئاسية الأمريكية باهتمام وترقّب كبيرين؛ ويجد الاهتمام الكبير والواسع بهذه الانتخابات وبالنتائج التي أفرزتها أساسه في مجموعة من الاعتبارات التي يمكن إجمالها في المكانة الدولية لأمريكا التي استثمرت التحولات التي شهدها العالم منذ بداية التسعينات من القرن الماضي لتبسط هيمنتها على مجمل القضايا الدولية ولتفرض منطقها على مستوى إدارة مختلف الأزمات الدولية على امتداد مناطق مختلفة من العالم؛ مستثمرة في ذلك إمكانياتها ومقوماتها الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية.. ومختلف المؤسسات الدولية التي تحظى بتمثيلية وازنة بداخلها.
إضافة إلى الأجواء التنافسية الحادّة وغير المسبوقة التي طبعت الحملة الانتخابية للمرشحين في هذه الانتخابات على مستوى توظيف كل الأساليب للتقليل من حظوظ كلا الطرفين؛ وانخراط مختلف القنوات الإعلامية في هذا الصراع بالموازاة مع شبكات التواصل الاجتماعي التي وظفت على نطاق واسع في هذا الخصوص؛ وبالنظر إلى الشعارات المثيرة التي طرحت خلال هذه الحملة في ارتباطها بقضايا داخلية وإقليمية ودولية.
شكّل انتخاب الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب مفاجأة لكل المراقبين والمتابعين في الأوساط السياسية والأكاديمية.. سواء على مستوى الداخل الأمريكي أو على الصعيد الدولي.
ثمّة مخاوف جدّية داخل أمريكا وخارجها من أن يشكّل وصول «ترامب» إلى سدّة الرئاسة بداية لسياسات جديدة توحي بتراجع المبادئ الديمقراطية التي طالما دافعت عنها الولايات المتحدة؛ أو تزج بالعالم في متاهات من الصراع والتوتر من جديد بعد طيّ صفحات الحرب الباردة قبل أكثر من عقدين من الزمن.. كما لا تخفي بعض الأوساط الأكاديمية والسياسية مخاوفها من تصاعد موجة الإرهاب الدولي وانتعاش الحركات المتطرفة كرد فعل على الخطابات والشعارات التي أطلقها «ترامب» في علاقته بالمسلمين.
صرّح «ترامب» بعد الإعلان عن فوزه بالانتخابات أنه أضحى رئيساً لكل الأمريكيين؛ ووعد بأنه سيسعى إلى تحقيق السلام مع جميع الدول؛ كما لم يفوّت الفرصة في تقديم الشكر لمنافسته «هيلاري كلينتون» على ما قدّمته من خدمات للبلاد.. ومع ذلك فقد أثار هذا الفوز أجواء من الحذر والترقب داخل الأوساط الأمريكية والدولية، فعلى المستوى الداخلي خرجت الجماهير إلى الشارع في عدد من المدن الأمريكية معبرة عن رفضها ل«ترامب» حيث رفعت الكثير من الشعارات من قبيل «لا للكراهية» و«لا لأمريكا العنصرية».. أما على الصعيد الدولي فقد أخذت بعض الدول الشعارات التي رفعها «ترامب» على محمل الجدّ؛ وبخاصة تلك التي تهم المهاجرين والأقليات والمسلمين وقضايا البيئة.
رغم كل هذه المعطيات؛ يظل السؤال المطروح هو: هل سيتوجه ويتمكن الرئيس «ترامب» فعلاً من بلورة شعاراته التي أطلقها أمام الناخب الأمريكي على أرض الواقع؛ أم لا؟
تشير الممارسات الدولية على مستوى تدبير المحطات الانتخابية إلى أن هناك بوناً شاسعاً يفصل الشعارات الانتخابية التي يسعى من خلالها المرشحون إلى إقناع الناخبين بشتى السبل من جهة؛ وبين محك تدبير الشأن العام الذي يحكمه الكثير من الضوابط القانونية والمؤسساتية والبروتوكولية.. من جهة أخرى.
ومن هذا المنطلق؛ يبقى الكثير من الأفكار والتوجهات المثيرة التي طرحها «ترامب» في أوج حملته الانتخابية «الشرسة» على المستوى الداخلي؛ مجرد شعارات لا أقل ولا أكثر..
على المستوى الخارجي طرح «ترامب» مجموعة من التوجهات المثيرة للجدل من قبيل بناء جدار عازل على الحدود مع المكسيك للحيلولة دون تسرب المهاجرين غير الشرعيين؛ وطرد ما يربو على 11 مليون مهاجر سري بالبلاد؛ ورفض دخول المسلمين إلى البلاد؛ والدعوة لإعادة التفاوض بصدد الاتفاقيات التجارية العالمية.
ورغم التجاوب الذي لقيته هذه الشعارات ذات الحمولة المبسّطة من لدن بعض الفئات التي اقتنعت بخطاب «ترامب» في هذا الصدد؛ وعلى الرغم أيضاً من تعزيز حضور الحزب الجمهوري داخل المؤسسة التشريعية بغرفتيها (مجلسي النواب والشيوخ)؛ فلا يمكن توقع تحوّل جذري في السياسة الخارجية الأمريكية؛ بالنظر لاعتبارات عدة أهمها؛ أن هذه السياسة على عهد الرئيس المنقضية ولايته «باراك أوباما» لم تكن منسجمة مع الشعارات التي أطلقها في بداية ولايته الأولى؛ وخصوصاً فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية ودعم الديمقراطية ومكافحة الإرهاب وإدارة الأزمات والملف النووي الإيراني..؛ فيما ظلت قضايا البيئة والتهديدات المحيطة بها خارج اهتماماته.
كما أن صناعة القرار الأمريكي الخارجي يتحكم فيها الكثير من الأطراف الرسمية وغير الرسمية؛ ويؤطرها العديد من الضوابط والمحددات التي تطبع السياسة الأمريكية في هذا الشأن؛ في ارتباطها بتحقيق المصالح وحماية الأمن الأمريكيين في صورهما الواسعة والاستراتيجية.
وبغض النظر عن الآليات والسبل؛ تظل هناك أولويتان أساسيتان ظهرتا بشكل واضح ضمن خطاب «ترامب»؛ لا شك أنهما ستحظيان باهتمام كبير من قبل الإدارة الأمريكية الجديدة. وهو ما يستشفّ من حديثه المتكرّر عن إعادة الاعتبار والهيبة للولايات المتحدة ومكانتها؛ ويتركز الهدف الأول في ترسيخ الزعامة الأمريكية للعالم وتعزيز مكانتها في هذا الصدد في مقابل التمدد الاقتصادي الصيني؛ ومحاولة روسيا للعودة إلى الواجهة الدولية عبر مدخل الملف السوري ومثيله الأوكراني.. أما الأولوية الثانية فهي تعزيز الأمن القومي الأمريكي في بعده الواسع والاستراتيجي بما يحيل ذلك من حسم مع قضايا الإرهاب والجماعات المتطرفة.
وبمنطق الربح والخسارة سيكون لكل تغيّر جذري في هذه السياسة إزاء مختلف القضايا الدولية (التعامل مع المسلمين؛ والتعاطي مع القضية الفلسطينية؛ وقضايا الهجرة؛ وقضايا البيئة؛ والالتزامات الدولية على المستوى الاقتصادي والمالي والعسكري..) كلفة خطيرة ستنال بكل تأكيد من المكانة الدولية للولايات المتحدة.