بدا انتخاب «دونالد ترامب» رئيساً جديداً للولايات المتحدة زلزالاً سياسياً اهتزت بأثره حسابات القوى المتصارعة باتساع خريطة العالم، تصاعدت مخاوف في أوروبا من زيادة نفوذ اليمين العنصري، وتبدت في الإقليم مخاوف من نوع مختلف شملت لاعبين رئيسيين، فلا أحد يعرف أين تستقر السياسات ومتى تنقلب التحالفات، ووصلت رياح القلق إلى بحر الصين الجنوبي وأماكن أخرى من العالم.
مع ذلك كله يصعب توقع طبيعة السياسات الدولية للرئيس الخامس والأربعين، التي سوف ينتهجها من موقعه على رأس القوة الأولى في العالم، فما كان صالحاً أثناء حملته الانتخابية في إلهاب مشاعر ناخبيه المحبطين من سطوة المؤسسة الأمريكية لا يؤسس لتغييرات دراماتيكية دون أعباء استراتيجية باهظة.
العناوين العامة غير السياسات المحددة، والمرشح المثير للاستهجان بتصرفاته وتصريحاته غير الرئيس الذي يمتلك صلاحيات واسعة، لكنه لا يقرر وحده ولا يمتلك الأمر وحده.
أهم الأسئلة الآن: إلى أي حد ضرب زلزال «ترامب» عمق المؤسسة الأمريكية؟
جاء صعود ملياردير العقارات ضد كل استطلاعات الرأي العام وتوجهات أغلب النخب المالية والسياسية والإعلامية والفنية تعبيراً مباشراً عن اهتزاز المؤسسة الأمريكية إلى حد يصعب ترميمه في أي وقت منظور، لكن ذلك لا يعني أنها على وشك الانهيار أو أن دورها الحاكم قد توقف.
بصورة أو أخرى يشبه صعود «ترامب» من وجوه عديدة ما جرى في إيطاليا بعد انهيار سور برلين وتفكك الاتحاد السوفييتي.
في أوضاع الخلخلة أمسك الملياردير المثير للجدل بصفقاته وتصريحاته وتصرفاته «سيلفيو بيرلسكوني» بمقادير الأمور.
بمقاربة ما فإن صعود «ترامب» تعبير عن خلل مماثل في البنية السياسية، مع اختلاف الظروف والعصور والبلدان.
لا أحد بوسعه أن يجزم مبكراً بحدود ترنح المؤسسة الأمريكية، ولا مدى قدرتها على احتواء الساكن الجديد في البيت الأبيض.بحسابات الاقتراع المؤسسة أمام أوضاع اهتزاز لا سابق لها في التاريخ الأمريكي.
وبحسابات تمركزها فإنها حقيقة يصعب إنهاء سطوتها بضربة قاضية واحدة على حلبة ملاكمة.
أول اختبار جدي لحدود الاهتزاز طبيعة الفريق الرئاسي الذي يعلن عنه الرئيس المنتخب.إذا كان فريقه على قدر من الكفاءة وله سجل معروف في ملفاته التي ينظرها، وبطبائع الأمور للحزب الجمهوري بأغلبيته المتجددة في الكونغرس رأي يؤخذ به، فإننا أمام إعادة إنتاج للمؤسسة بمعناها الأمريكي المعتاد.
أما إذا افتقد الرئيس الجديد أي صلة بالواقع ودخل في صراعات مفتوحة وتصفية حسابات مع قيادات حزبه، التي لم تؤيده، فإنه قد يجد نفسه تحت قصف نيران من الصحافة والإعلام وقطاعات واسعة من الرأي العام تناهضه على طول الخط دون أي حماية من المؤسسة.
لكن ماذا بعد فوزه المفاجئ، الذي صاحبه صعود كبير للحزب الجمهوري في الكونغرس؟ السؤال ينتظر إجابة قد لا تتأخر طويلاً.
تصدع وزن المؤسسة والضجر من سطوتها ترجم نفسه ثلاث مرات في السنوات الأخيرة.
الأولى: بانتخاب «باراك أوباما» كأول رجل أسود يتولى الرئاسة الأمريكية.
أرجو أن نتذكر أن الأغلبية الساحقة من البشرية راهنت على صعود «أوباما» بأمل أن يُحدث تغييراً جوهرياً في بنية سياسات بلاده، حتى بدا أن العالم كله وضع صوته في صناديق الاقتراع الأمريكية وحصل على جائزة «نوبل» للسلام قبل أن يفعل أي شيء يبرر استحقاقها.
وصل الهوس ب«أوباما» في العالم العربي إلى حد أن بعضنا تصوره «صلاح الدين الأيوبي» الذي جاء لتحرير القدس.
حاول أن يحدث قطيعة مع إرث «جورج دبليو بوش» وحروبه في المنطقة، لكن جوهر السياسات بشأن القضية الفلسطينية ظل على حاله.
والثانية: بتحدي المرشح الاشتراكي «بيرني ساندرز» في بلد مثل أمريكا فرص «هيلاري كلينتون» بنت المؤسسة في سباق الحزب الديمقراطي.
لم تكن «كلينتون» بتكوينها وتاريخها والانحرافات المنسوبة إليها مؤهلة لاكتساب ثقة الأجيال الجديدة، خاصة بين النساء، التي تطلب تغييراً جدياً في طبيعة صنع القرار، وكان «ساندرز» ملهماً لفكرة الاعتراض على جمود المؤسسة ورجعيتها.
والثالثة: في اتجاه مضاد تماماً بانتخاب «ترامب» رئيسًا للولايات المتحدة.
رغم شخصيته المنفلتة وتعبيراته الخارجة عن أي قيود اكتسب قوة زخمه من تحديه المباشر للمؤسسة الأمريكية، في حزبه وخارجه، دخل في صدام مع الصحافة بأغلبيتها، متوجهاً بخطابه الواضح والمحدد للأكثرية البيضاء، التي تعاني في الضواحي والأرياف مما تعتقد أنها قد خسرته من مصالح ونفوذ ذهبت إلى الأقليات الأخرى.
بكلام صريح صعد «ترامب» بخطاب يميني به رائحة عنصرية، وكان يعرف ما يفعل، بينما راهنت «كلينتون» على استطلاعات الرأي العام ودعم نخب المؤسسة دون أن تتبنى أي رؤية تدعو للتغيير في قواعد اللعبة.
في مطلع الستينات جددت أمريكا شبابها بانتخاب «جون كنيدي»، أول رئيس كاثوليكي، قبل أن تتخلص المؤسسة الأمنية من طموحاته ل«الآفاق الجديدة».
لأسباب عكسية قد تتخلص بعض أجهزة المؤسسة من «ترامب»، بوسيلة أو أخرى، وليس بالضرورة اغتيالاً، إذا ما أصبح عبئاً لا يطاق على ما تتصوره من مصالح أمريكية.
وفي مطلع الثمانينات انتخبت ممثلاً مغموراً «رونالد ريغان» رئيساً، وبدا البيت الأبيض كشريط سينمائي عن «حرب النجوم» بحسب الدعوة التي أطلقها في ذلك الوقت.
غير أن المؤسسة الجمهورية والمصالح التي تحكمها وضعت حدوداً لخيال الرئيس، حتى لا يصطدم بصراعات القوة وحدودها في العالم الواقعي.
كان اختيار الفريق الرئاسي حاسماً في تحديد التوجهات والسياسات والعودة إلى قواعد المؤسسة.
الأمر نفسه، مع شخصية أكثر جموحاً، قد يحدث بسيناريو أو آخر.