جون ديوي واحد من أشهر الفلاسفة الأميركيين، وهو بالتحديد واحد من صناع العقل الأميركي، وإذا كنا نتحدث دوماً عن الساسة الأميركيين باعتبارهم براغماتيين، فإن جون ديوي هو الذي صقل هذه العقول واقتادها لتبني مجمل التقدم الأميركي على أساس براغماتي. والكتاب المفزع الذي نتأمله الآن كتبه جون ديوي في عام 1939 وعنوانه «الحرية والثقافة» .
ويتحدث المترجم للكتاب عن «الفلسفة البراغماتية» فيسميها الفلسفة الوسيلية ويفضلها على معان أخرى مثل الذرائعية أو الآلية وأحاول أنا أن أتفلسف فأفضل الفلسفة الأدواتية «أي التي تتحول من مجرد آلية لإبداع أفكار يختلف حولها الفلاسفة الآخرون إلى أداة لحل المشكلات العملية التي تصادف الناس في حياتهم اليومية».
وهكذا أراد جون ديوي الذي رأى أن الفكر هو آلة لحل مشكلات الناس اليومية، وحتى العلم يراه ديوي ليس مقصوداً، بذاته فالإنسان يتعلم ليس لاختزان معلومات وإنما يتعين أن تكون المعرفة وسيلة لتحقيق متطلبات الحياة الاجتماعية.
والعقل عند ديوي يكاد يشبه العقل عند الغزالي الذي يفرق فيه بين العقل الفاعل والعقل المنفعل، فديوي يرى أن العقل مجرد عضو مثل اليد والعين، فهو أداة وليس غاية في ذاته. لكن الأمر عند ديوي أكثر تعقيداً فهو يصفع القارئ في أول سطر من كتابته «ما الحرية»؟ ولماذا يهتم بها الناس؟ وتتوالى أسئلة ديوي لتحاصر القارئ، وهل الحرية مطلوبة لذاتها أم لتحقيق أهداف أخرى؟
وهل تستحق أن يتحمل البعض تبعات مرهقة إذ ينادون بها؟ وهل الحرية في ذاتها وفي ما تحققه تبدو مهمة مثل وسائل العيش والطعام والسكن؟
ومثل استمتاع الإنسان بمتع الحياة من لهو ومرح؟ وهل صحيح ما يزعمه البعض من أن سعي الإنسان للحصول على الحرية كان القوة الدافعة لتقدم البشرية؟ أم أن الحرية تحققت لأننا أردنا التخلص من قيود ترهقنا، فإن تخلصنا من هذه القيود انتهت الرغبة في الحصول عليها.
وإذا كانت الحرية السياسية تمنحنا الادعاء بأنها لا يمكن الاستغناء عنها فما هي علاقتها بالتفاعلات خارج الحياة السياسية في مجالات الصناعة والعلم والفن والثقافة وهي جميعاً تؤثر في عاداتنا ومواقفنا والبيئة القانونية التي تعيش في إطارها، ثم يزيد ديوي من إصراره على إرباكنا المقصود، إذ يؤكد أن تداخل كل هذه العوامل التي نعيش فيها مع بعضنا البعض تتلخص جميعاً في لفظة ثقافة.
فالثقافة هي ثمرة موازية للحرية السياسية هي نتيجة وأيضاً مثيلة لها وبذلك تصبح الثقافة غلافاً يضم في أحشائه العلم والمعرفة والفنون والتكنولوجيا والصداقة والحب والأسرة وهي ثمرة وأيضاً فاعل في ذلك كله.ثم يضعنا ديوي أمام الحقيقة الأميركية التي نشعر بنتائجها الكارثية.
فيسأل هل يمكن أن يكون لعامل واحد السيادة في تحريك المجتمع وتكون العوامل الأخرى ثانوية؟ ويجيب صراحة «الاتجاه في وقتنا الحاضر هو الاعتقاد بأن الأحوال الاقتصادية هي القوة الفعالة»، وحتى فكرة الأخلاقيات التي ظلت هي والعادات شيئاً واحداً التي اعتبرت معياراً للرصانة والاحترام تتبدل ليتوالد بديلاً عنها عادات وتقاليد جديدة يتقبلها الناس «فيوجد نسق أخلاقي جديد».
ويمضي جون ديوي ليرسم أسس المجتمع الأميركي، ويكشف كل أوراقه ويقول: «إن المدرسة الاقتصادية الكلاسيكية تعتبر المصلحة الشخصية هي القوة الأساسية الدافعة إلى كل سلوك يصدر من بني الإنسان»، ثم يقول: «إن محبة القوة هي الفكرة النظرية المرشحة كي تكون الفكرة المسيطرة على توجيه النشاط الإنساني».
فالنجاح في السعي وراء الأرباح والمكاسب الاقتصادية هو بالأساس امتلاك لقوة كبيرة متفوقة، وهذا النجاح يتوالد منه المزيد من هذه القوة وهو الأمر الذي يدفعنا إلى أن نستنتج بالضرورة أنه لا يوجد أي نوع من السياسة غير سياسة القوة .
ويقول صراحة: «إن كان البعض في الماضي يتسترون على ذلك بلباقة وعبارات محتشمة، فإننا الآن نقرر ذلك، لأنها أصبحت الأمر الواقع»، بل إن ديوي يبرر سياسة القوة هذه بمبدأ البقاء للأصلح الذي قامت على أساسه الداروينية.
ثم هو يعود ليبرر نزعة أميركية أخرى، فيقول إن الطبيعة البشرية ككل أشكال الحياة تنزع إلى التمايز «والتمايز يتجه إلى ما هو فردي، فالالتجاء إلى الاحتماء بالجماعة كان ينجم عن الخوف مما يهدد الحياة». ثم هو يتأمل في شماتة ما سماه التدهور الذي أصاب «الحرية والمساواة» ووضع الكلمتين في تناقض مع ما هو الأساس عنده وهو «الفردية».
وهكذا فإننا وعبر منظومة فكر ديوي المتوحشة نصبح قادرين على فهم السياسات الأميركية تجاهنا.. ونعرف ـ ربما ـ كيف نواجهها.