ماذا يبقى من دونالد ترامب المرشّح، بعدما اصبح الرئيس دونالد ترامب؟ لن يبقى الكثير من الوعود التي اطلقها خلال حملته الانتخابية، خصوصا انّه سيترتب عليه مواجهة الواقع. الواقع هو الإرث الثقيل لباراك أوباما الذي حوّل الولايات المتحدة الى متفرّج على الاحداث التي يشهدها العالم بعدما اعتبر ان الإنجاز الحقيقي الوحيد الذي حقّقه في مجال السياسة الخارجية يتمثّل في الاتفاق في شأن الملفّ النووي الايراني.
الامر الوحيد الأكيد ان ما حصل كان ثورة للبيض المقيمين خارج المدن الكبيرة الذين ثاروا على عهد اوباما. تحرّك هؤلاء واثبتوا مرّة أخرى انّهم يمثلون اميركا العميقة وانّهم ما زالوا القوة الانتخابية التي لابدّ من اخذها في الاعتبار، حتّى لو زاد عدد الناخبين السود او المنتمين الى الاقلّية التي تتحدث بالاسبانية. لم تستطع هيلاري كلينتون تعبئة هؤلاء على الرغم من الخطاب الاستفزازي لترامب تجاه الاقلّيات والمسلمين وتهديداته للمهاجرين ووعده بإقامة جدار بين الولايات المتحدة والمكسيك.
كان عدم القدرة على تعبئة الاقلّيات نقطة الضعف الأساسية لدى هيلاري التي لم تستطع في ايّ وقت طرح نفسها كشخص يمكن الاعتماد عليه وعلى خبرته وعلى نزاهته. ظهرت دائما كما لو ان عهدها سيكون امتدادا لعهد أوباما الذي خيّب قسما لا بأس به من الناخبين، على رأسهم البيض.
ما لا يمكن تجاهله ان 31 من اصل 35 مدينة أميركية كبيرة صوّتت مع هيلاري من دون ان يؤدي ذلك الى فوزها. هناك اميركا منقسمة على نفسها اكثر من ايّ وقت. انتصر ترامب بسبب هذا الانقسام وبسبب عوامل عدّة لا يمكن تجاهلها. في مقدّم هذه العوامل اقتناع عدد كبير من الناخبين البيض بانّ هيلاري لا يمكن ان تكون موضع ثقة في ايّ شكل، خصوصا بعدما اثار مكتب التحقيقات الفيديرالي (اف. بي. آي) مسألة بريدها الالكتروني عندما كانت وزيرة للخارجية في السنوات الأربع الاولى من عهد اوباما.
الى جانب ذلك، لم يكن هناك في يوم من الايّام وضوح وشفافية بالنسبة الى نشاطات «مؤسسة كلينتون» التي ارتبطت أيضا بزوج هيلاري، الرئيس الأسبق بيل كلينتون، بعدما طرحت علامات استفهام كثيرة في شأن مصادر الاموال التي كانت تدخل صندوق المؤسسة.
الآن وقد انتصر ترامب، وهو انتصار على الحزب الجمهوري الذي ترشّح باسمه اوّلا، ذلك انّ ايّا من قادة هذا الحزب لم يؤيّده، ستدخل الولايات المتحدة في ما يمكن تسميته رحلة في المجهول. لم تصدر عن ترامب او فريقه ايّ تفاصيل واضحة تتعلّق بالسياسة الخارجية التي ينوي اتباعها. ناقض نفسه مرات عدة. انّه يدعم إقامة علاقات قويّة مع فلاديمير بوتين ويريد شنّ حرب تؤدي الى اجتثاث «داعش» في الوقت ذاته. لا يمتلك ما يكفي من المعرفة بشؤون الشرق الاوسط كي يستوعب ان بوتين والنظام السوري وايران وراء إيجاد حاضنة لـ «داعش» اكان ذلك في سورية او العراق.
المخيف انّ الرئيس الاميركي الجديد الذي سيتولى مهماته في العشرين من يناير المقبل، يعتبر الاتفاق في شأن الملف النووي مع ايران «أسوأ» اتفاق من نوعه. لا يمتلك حدّا ادنى من المنطق للاعتراف بانّ هذا الاتفاق غير مهمّ، بل هو في الأساس مناورة إيرانية ناجحة، تستهدف ابتزاز الولايات المتحدة وأوروبا. المهمّ النشاطات الايرانية في المنطقة، وهي نشاطات قائمة على الاستثمار في الميليشيات المذهبية التي انتشرت في كلّ الشرق الوسط، خصوصا في سورية والعراق ولبنان، وصولا الى اليمن… هل لدى ترامب القدرة على القيام بهذه النقلة النوعية في فهم طبيعة ما يدور في الشرق الاوسط ومنطقة الخليج منذ سقوط العراق في العام 2003؟
سيعتمد الكثير على الفريق الذي سيحيط ترامب نفسه به. هل يلجأ الى اشخاص يجعلوننا ننسى أولئك الذين شكلوا الحلقة الضيّقة التي كانت تشكل محيط أوباما؟ هذه الحلقة التي ضمّت الكثيرين من المعجبين بايران والتي تربط الإرهاب باهل السنّة، متجاهلة وجود ميليشيات مذهبية تدعمها ايران، تقف وراء تشجيع قيام حرب مذهبية تدفع ثمنها كلّ دولة من دول المشرق العربي. هذه حرب يمكن ان تستمرّ قرنا، وقد شجعت عليها إدارة أوباما ووفرّت لها كلّ أسباب التوسّع وذلك بعد الاجتياح العسكري الاميركي للعراق في عهد الرئيس الجمهوري جورج بوش الابن.
انّها رحلة أميركية في المجهول. لن تفقد اميركا موقعها كقوة عظمى وحيدة في العالم بسبب ترامب او أي رئيس آخر. لكنّ انتصار الأخير يطرح أسئلة كثيرة، بما في ذلك مستقبل العلاقات الروسية ـ الأميركية والتركية ـ الأميركية وموقع أوروبا في السياسة الخارجية للولايات المتحدة في مواجهة روسيا من جهة وتقوية حلف شمال الأطلسي من جهة أخرى، إضافة بالطبع الى مدى جدّية دونالد ترامب في وضع حدّ للتوسع الصيني على كلّ صعيد بعد طرحه لما يعتبره مشكلة اسمها سياسة الأسواق المفتوحة.
ما يؤكد بداية الرحلة الأميركية في المجهول ردود فعل الأسواق المالية العالمية على انتصار ترامب. حصلت خضة في هذه الأسواق، لكنها ما لبثت ان التقطت أنفاسها وعادت الى الارتفاع. لا يشبه انتخابه غير خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي اثر استفتاء الصيف الماضي. ليس معروفا الى اين سيأخذ ترامب الولايات المتحدة والعالم مثلما انّه ليس معروفا الى اين ستذهب بريطانيا بعد تصويت أكثرية مواطنيها الى جانب «بركسيت» من دون أي ادراك للنتائج التي ستترتب على مثل هذه الخطوة.
مع هيلاري، كان العالم، خصوصا عالم الاعمال والمال، يعرف تماما ما الذي يمكن توقّعه. مع ترامب، الذي تحيط شكوك بنزاهته وبكيفية صناعته لثورته، لا مكان سوى لحال من الضياع…
هل يكفي ان يكون ترامب رجل اعمال ناجحاً، في ظلّ مقاييس معيّنة لا تنطبق عليها مواصفات الشفافية، كي يحسن إدارة القوة العظمى الوحيدة في العالم؟ هل يكفي انّه مناور بارع يعرف كيف يثير الغرائز لدى الرجل الأبيض الاميركي كي نتوقع منه تنفيذ الشعارات التي رفعها من بينها «إعادة العظمة الى الولايات المتحدة»؟
في كلّ الاحوال، حقّق ترامب حلمه معتمداً على غباء قسم لا بأس به من الناخبين الاميركيين. هكذا يقول الرئيس الـ45 للولايات المتحدة الأميركية. ففي حديث الى مجلة «بيبول» ادلى به في العام 1998، قال ترامب: «اذا نويت على خوض الانتخابات الرئاسية، فسأرشّح نفسي كجمهوري. الجمهوريون اغبى مجموعة من الناخبين في البلد. انّهم يصدّقون ايّ شيء تقوله فوكس نيوز (محطة تلفزيونية يمينية). استطيع ان اكذب وسيبتلعون الكذبة. اني اراهن على ان الأرقام التي سأحققها ستكون مذهلة».
ما حقّقه كان أرقاما مذهلة، اذ فاز في ولايات كان مستبعدا ان يحقق فيها أي نجاح. صدق ترامب مع نفسه الى ابعد حدود في عالم مجنون لم يعد فيه مكان سوى للغباء والتطرّف. فبعد الذي حصل في الولايات المتحدة وقبل ذلك في بريطانيا، لم يعد مستبعدا ان تكون زعيمة اليمين المتطرّف مارين لوبن الرئيس المقبل لفرنسا في ربيع 2017… والآتي أعظم.