أظهرت نتيجة انتخابات الرئاسة الاميركية ان استطلاعات الرأي قد تخطئ بنسب التفوق لكل مرشح التي تلحق عادة بالتقديرات وقاية من انكشاف خطأ كبير.
الواقع ان ما حدث يوم 8 تشرين الثاني 2016 في الولايات المتحدة قلب جميع المقاييس وليس ذلك فقط بالنسبة الى الترجيحات والتقديرات بل أيضاً الى توجهات الناخبين نحو المتشددين يمينياً والمناهضين لما سمي العولمة. ولا شك في ان الظروف الاقتصادية في العالم الغربي والمتمثلة في نمو بطيء في الولايات المتحدة وبريطانيا ولا نمو في بقية أوروبا الغربية، اسهمت في تقوية توجهات اليمين المتطرف سواء في فرنسا، النمسا، بريطانيا، بلغاريا الخ… والولايات المتحدة.
أدنى سبب لاستغراب نتيجة انتخابات الولايات المتحدة، هو ان ترامب وهيلاري كلينتون، يعتبران عرضة للمساءلة الاخلاقية، ولا نعني بذلك العلاقات الجنسية بل الانتظام في العمل والانتفاع. ذلك أن ست شركات كان يديرها ترامب أفلست من غير ان يفلس هو، وهيلاري كلينتون وزوجها جمعا في مؤسستهما تبرعات تزيد على ملياري دولار وابنتهما تشيلسي تدير المؤسسة دون اشراف ضريبي.
الرفض الضمني لكل من ترامب وكلينتون، ربما لدى غالبية الذين يحق لهم التصويت دفع أكثرية المقترعين، وولايات حيوية بالنسبة الى عدد الناخبين الرئيسيين الـ538 الموزعين بين الولايات بحسب عدد الناخبين، الى اختيار الاقل سوءاً والاكثر جعجعة، أي دونالد ترامب.
لماذا من شأن انتخاب ترامب أن يضر بالاقتصاد الاميركي والدولار؟ ترامب يعارض استقبال الاجانب، ولا سيما منهم المهجرين، وهو لو درس نتائج خدمات الاتصالات واختزان المعلومات الكترونياً مع تحليلها لتناسب حاجة المستثمر أو الطالب لكان أدرك ان تميز الولايات المتحدة في هذه المجالات يعود الى الصينيين والهنود والفرنسيين والبريطانيين قبل ان يكون متأصلاً لدى الاميركيين المتحدرين من المهاجرين الاوائل، أي الاوروبيين البيض، الى الولايات المتحدة.
أما تصريحات ترامب المعادية للمسلمين، فلا شك في أنه اذا استمر في الاصرار عليها ستؤدي الى تشنج في العلاقات مع السعودية وغالبية دول الخليج، كما ستؤدي الى تصلب العلاقات مع طهران. وهو ان أصر على تعديلات في الاتفاق النووي مع طهران سيسهم في تأزيم شؤون المنطقة الى حد بعيد، ومنطقة الشرق الاوسط تنفجر نتيجة الاحتلال الاميركي الفج للعراق والذي مهد لنمو الحركات الجهادية وتطورها بعد استشعار السيطرة الاميركية على شؤون النفط والمال في هذا البلد لفترة غير قصيرة. بكلام آخر، قد تشهد العلاقات الشرق الاوسطية – الاميركية تدهوراً، ولعل حظ لبنان انه آخر حبات العنقود. فالاهتمام بشأنه محدود، وان يكن كبير الاهمية لبنانياً بالنسبة الى تسليح الجيش لتأمين الحدود مع سوريا وصد أي اعتداءات للمسلمين المتشددين.
المشاكل الاقتصادية التي لها امتدادات سياسية تدور حول اتفاقات التجارة الحرة القائمة بين كندا والمكسيك والولايات المتحدة، وترامب استناداً الى تصريحاته النارية يريد طرد 11 مليوناً من المقيمين غير الشرعيين في الولايات المتحدة، وله اقتناع سخيف ببناء جدار مانع يمتد على طول الحدود المكسيكية – الاميركية، أي ما يشبه جدار برلين سابقاً الذي هدمته حماسة الشعب الألماني للحرية أواخر 1989، أو جدران الفرز في اسرائيل بين مناطق عربية واخرى محض اسرائيلية. وانتخاب ترامب تسبب مباشرة بانهيار سعر صرف العملة المكسيكية بنسبة 12 في المئة. فالنظرة المستقبلية الى التعاون الاقتصادي المكسيكي – الاميركي – الكندي باتت سوداوية.
اننا نرى ان هنالك استحالة لتسفير 11 مليون مقيم غير شرعي، ولن يكون من السهل على السلطات الاميركية تنفيذ هذه المهمة، ولو حصلت جزئياً سوف نشهد امرين على الاقل: انخفاض الاستهلاك، الذي هو العنصر الاساسي في الدخل القومي، وارتفاع الاسعار لان المقيمين غير الشرعيين يتقاضون أجوراً مخفوضة مقابل اعمالهم التي يتركّز الكثير منها في حقل الخدمات والاعمال الزراعية.
أبعد من الاتفاق الاميركي – الكندي – المكسيكي الذي قد يحاول ترامب مع فريقه تعديله، والامر يستغرق سنوات، هنالك الاتفاقات على تحرير التجارة بين دول شرق آسيا وشمال أميركا بما فيها الولايات المتحدة، وموقف ترامب من هذه الاتفاقات يتسم بالرفض المطلق، وهو ينادي بمواجهة الصين التي تختزن 4.2 تريليون دولار من السندات الحكومية الاميركية. واذا حاول ترامب حصر العلاقات مع الصين، فقد يواجه بطلبات تسييل السندات الحكومية الاميركية، والعجز عن ذلك يعني فقدان صدقية الولايات المتحدة ومركزية التعامل بالدولار عالميًا. هل يستطيع ترامب كرئيس مواجهة نتيجة كهذه؟ قد يكون لديه مستشارون يدركون المخاطر ويمنعونه عن اختبار التحدي الاقتصادي الذي يقود لا سمح الله الى مواجهات عسكرية.
نعرض في هذا التعليق لجانب آخر ولا نكون بذلك قد عالجنا نظريًا كل التطورات المستقبلية. ينادي ترامب بتحميل الدول التي تنتشر فيها قوات أميركية سواء في حلف شمال الأطلسي أو خارجه تكاليف هذه القوات، وهو يهدد بسحبها.
لا شك في ان هذا الموقف سيلقى صداه في أوروبا الغربية حيث ان البلدان المضيفة للقوات الاميركية، وان تكن تعاني جموداً اقتصادياً، تستطيع احلال قواتها محل الأميركيين.
في المقابل، يختلف الوضع في جنوب شرق آسيا، فالقوات الاميركية في جزيرة أوكيناوا في اليابان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تمثل التجمع الدفاعي والهجومي الاهم في منطقة الشرق الاقصى في هذه الجزيرة، ويطالب اليابانيون ضمناً وأحياناً علناً بخروج القوات الاميركية، فليست ثمة مشكلة، وفي المقابل المشكلة الكبرى في كوريا الجنوبية، فانسحاب القوات الاميركية يؤدي الى حرب بين الكوريتين، وكوريا الشمالية تمتلك قوة نووية.
بالنسبة الى الشرق الاوسط، يدرك ترامب ان عليه الانتباه الى ثروة النفط، علمًا بان اعتماد الولايات المتحدة على استيراد النفط تلاشى مع اكتشافات النفط والغاز الصخري وتطويرهما. لكن احتياط العراق والسعودية وايران من النفط لا يمكن تجاهله كما هو الامر بالنسبة الى احتياطات الغاز في ايران التي لا تزال من الاكبر في العالم.
أخيراً وبعيداً من المواجهات الدولية، يبدو ان الاستهدافات المالية والاقتصادية لترامب صعبة التحقيق، فهو يريد ضبط عجز الموازنة في حين يطالب بخفض الضرائب على الاغنياء، وهو يريد خفض دور القطاع العام مع خفض معدل البطالة. هذا مع العلم ان معدل البطالة انخفض عن 5 في المئة حديثاً وليس ثمة بلد صناعي حقق هذه النتيجة أو أفضل منها سوى اليابان حيث معدل البطالة 3 في المئة.
انتصار ترامب يزعزع العلاقات الدولية ويدخل عنصر المواجهة في أمور حيوية واعداد بشرية هائلة من المقيمين غير الشرعيين ويمكن توقع اشهر صعبة خلال السنة الاولى من حكمه للاقتصاد الاميركي والدولار.
52 4 دقائق