الذي لا شك فيه هو [bctt tweet=”أن الحملة الانتخابية الراهنة هي الأكثر فضائحية في التاريخ الأمريكي” via=”no”]، وهي إن دلت على شيء، فإنما تدل على أن هذه الإمبراطورية التي ملكت من أسباب القوة ما لم تملكه أية إمبراطورية من قبل قد بدأت رحلة التراجع، ولا شيء سيوقف تلك الرحلة، فيما يبقى السؤال مركزا حول سرعة التراجع.
ما لم تحدث معجزة، فإن ترامب لن يكون رئيسا للولايات المتحدة، وقد قلنا منذ البداية إن مؤسسات الدولة العميقة التي منحت أوباما فرصة أن يكون أول رئيس أسود للبلاد، هي ذاتها التي تريد أن تكون كلينتون أول امرأة تتبوأ منصب الرئاسة، ولا يُستبعد أن تكون المحطة التالية هي السماح بأن يكون الرئيس التالي كاثوليكيا، وهو ما لم يحدث سوى مرة واحدة مع كينيدي، وانتهى مقتولا.
في الحملات الانتخابية السابقة كان السؤال العربي التقليدي يتركز حول موقف المرشحين من القضية الفلسطينية، الأمر الذي أصبح هامشيا منذ بوش الابن، وذلك بعد أن أصبح الحزب الجمهوري أكثر صهينة من الديمقراطي إثر هيمنة الكنائس المعمدانية الجنوبية عليه؛ هي التي جعلت من تأييد الكيان الصهيوني مسألة عقائدية، فضلا عن اختراقات اللوبي الصهيوني في الحزبين وسائر المؤسسات، والتي منحت الكيان أصواتا في الكونغرس أكثر من أي رئيس، ولم يعد بوسع أحد أن يتمرد على المطالب الصهيونية.
من هنا، لم يعد ثمة فرق يذكر بين أي مرشحين في هذا الملف، لكن الثابت أنه لم يحدث أن جاء مرشح رئاسي أمريكي بمثل هذه الحماسة التي يبديها ترامب للكيان، وتصريحاته تدل على ذلك، على رغم أنها لا تحكم سلوكه التالي بالضرورة، لكن مستوى تطرفها في الانحياز لافت دون شك.
كلينتون لن تغير الكثير في السياسة الراهنة حيال دولة الاحتلال، فالدعم سيبقى، ومعه عدم فرض أي شيء عليها، مع توفير الحماية لها في مجلس الأمن ضد أية قرارات يمكن أن تمسّ مصالحها.
في الملفات الأخرى المشتعلة عربيا؛ من سوريا إلى العراق واليمن. وفيما يبدو أن ترامب قد يشكل خطرا ما على مواجهة العدوان الإيراني، فإن الثابت أن هذه الملفات لا يتحكم بها الرئيس، وإنما المؤسسات الأمنية والعسكرية بالتفاهم معه، وبالتالي يُستبعد أن يتغير الكثير حيالها، وحتى لو قيل إن ترامب أقرب لروسيا، فإن هذا لن يغير الكثير، لأن المؤسسات الراسخة في البلد تعتبرها تحديا وليست صديقا، ولن تتغير السياسة حيالها أيضا، ويبقى أن استمرار حريق منطقتنا هو المفضل أمريكيا أيا يكن الرئيس.
هناك أوهام لدى البعض بأن الرئيس في أمريكا حاكم بأمره، لكن الواقع ليس كذلك، ومسيرة أوباما ووعوده أكبر شاهد، فالقضايا الاستراتيجية لا يحكمها الرئيس المنتخب، بل تتحكم بها المؤسسات الأمنية والعسكرية الراسخة بالتفاهم معه، وهو غالبا لا يخرج عن إرادتها، من دون أن نقلل من هامش التأثير الكبير للوبي الصهيوني حتى داخل تلك المؤسسات، وهو ما لم يكن موجودا قبل الثمانينات.
أمريكا إذن ستواصل تراجعها، مع مقاومة لمستوى التراجع، سواءً فاز ترامب أم فازت كلينتون، لكن الأكيد أنها لا تزال الأقوى، وستستغرق وقتا طويلا حتى تصبح رقما عاديا؛ حتى بين القوى الكبرى، على رغم أن التعددية القطبية أصبحت واقعا معاشا، وليست مجرد توقع كما كانت من قبل. وفي حالات الانتقال الكبرى في المشهد الدولي تكون السيولة، وتكون الفوضى التي تنعكس بالضرورة على العالم، بخاصة منطقتنا ذات الأهمية الكبرى لكل القوى الطامحة بحصة كبرى في المشهد الدولي، وهو أمر يبدو أكثر أهمية من سؤال من سيفوز: ترامب أم كلينتون؟