أفرز صراع الأطراف الليبية المختلفة على السلطة وضعاً يتسم بخطورة بالغة يمكنها أن تفضي إلى حدوث تطورات دراماتيكية لا يمكن التحكم في نتائجها وتداعياتها الكارثية على وحدة التراب الليبي، وذلك في ظل وجود مخططات تهدف إلى جعل عملية تقسيم ليبيا مقدمة لمشاريع تقسيم أخرى في المنطقة، وصولاً إلى إعادة النظر بشكل كامل في خريطة المغرب العربي وشمال إفريقيا، أسوة بما يحدث في المشرق العربي على مستوى الجبهتين السورية والعراقية.
تشير المعطيات الراهنة إلى أن التنافس البريطاني الفرنسي في ليبيا ما زال على أشده رغم انتهاء الأعمال العسكرية المباشرة لحلف الناتو، التي أسهمت في التعجيل بإسقاط نظام العقيد القذافي في شهر أكتوبر/ تشرين الأول من سنة 2011. ونستطيع أن نلاحظ في المرحلة الراهنة أن هناك شعوراً قوياً لدى دول الجوار الإقليمي لليبيا، بأن الدول الغربية تمارس لعبة مزدوجة، من خلال ادعائها أنها تعمل على دعم جهود الأمم المتحدة من أجل إيجاد حل سياسي في هذا البلد، من جهة؛ وذلك بموازاة سعيها الحثيث للتأثير في التوازنات العسكرية والسياسية التي يجري بلورتها حالياً ما بين مختلف الأطراف، من خلال التدخل العسكري المباشر للقوات الخاصة الفرنسية والبريطانية، من جهة أخرى.
وتوضح مختلف التقارير الصادرة عن المنظمات الدولية أن ليبيا ما زالت منقسمة بشكل حاد بين المنطقة الغربية الوفية لحكومة الوحدة الوطنية المدعومة من طرف المجتمع الدولي، وبين الشرق الوفي لبرلمان طبرق وللجنرال خليفة حفتر. ويرجع ذلك في رأي الكثير من المراقبين إلى الدور المشبوه الذي تقوم به القوى الغربية، حيث كشفت أنباء تعرض 3 جنود فرنسيين لجروح في بنغازي عن اللعبة المزدوجة التي يمارسها الغرب من خلال دعمه لحفتر في الشرق ولحكومة السراج في الغرب،.
هناك تداخلاً في المشهد الليبي يتجاوز نطاق التقسيمات الأيديولوجية المتعارف عليها، لأن الانتماء المناطقي والعشائري يبدو أقوى بكثير من التصنيف القائم على العناصر السياسية والدينية التقليدية، الأمر الذي يضاعف من صعوبة إيجاد حلول توافقية تأخذ في الحسبان هذه التوازنات المناطقية الدقيقة والهشة. فيما ادت سيطرة قوات حفتر مؤخراً على مراكز تصدير النفط إلى كسر مسلسل المصالحة الذي كان يهدف إلى دفع الجنرال حفتر إلى القبول بصيغة تسوية توافقية مع حكومة فايز السراج في طرابلس. وجاءت خطوة حفتر بعد الاتفاق الذي أبرم ما بين قبائل الطوارق والتبو في الجنوب والذي أفضى إلى فك الحصار عن منابع الطاقة؛ كما تزامنت مع ورود أخبار تفيد أن وفداً من مصراتة انتقل إلى طبرق في الشرق لإقناع حفتر بصيغة اتفاق، يتم من خلاله تشكيل هيئة قيادة يحصل فيها على منصب وزير الدفاع، وقد دفعت هذه التطورات المتزامنة بعض الملاحظين إلى القول إن الجنرال حفتر لا يريد منصباً وزاريا رمزيا، ولكنه يسعى إلى الحصول على منصب عسكري.
يمكن القول في سياق هذا التحليل، إنه وبالرغم من كل الاختلافات الحاصلة حول السلطة بين الأطراف المتصارعة فإن فكرة الدولة الوطنية الليبية الموحدة مازالت راسخة لدى الغالبية الساحقة من الليبيين، الأمر الذي يُبعد في الوقت الراهن شبح تقسيم البلاد، ولكن من دون أن يقلل ذلك من حدة الاستقطاب الداخلي الحاصل ما بين مختلف الفاعلين الرئيسيين داخل المشهد السياسي والعسكري. لاسيما وأن الحسم العسكري غير وارد في هذه المرحلة بعد اقتناع قوات مصراتة أن مهاجمة حفتر لن تفيد في حل الصراع وستعطي له بعداً مناطقيا أكثر تدميراً ما بين الشرق والغرب، وقد يدفع ذلك كل المكونات السياسية في الشرق على اختلاف توجهاتها الأيديولوجية، إلى تشكيل جبهة موحدة من أجل دعمه. كما أن الجنرال حفتر لا يملك في الجهة المقابلة، الإمكانيات العسكرية التي تسمح له بحسم المعركة لصالحه، نتيجة للصعوبات الكبيرة التي يواجهها من أجل القضاء على الجماعات المتطرفة.
وعليه فإن استبعاد فرضية التقسيم في المرحلة الراهنة بالنسبة للحالة الليبية، لا يعني بأي حال من الأحوال إسقاطها بشكل مطلق، وبخاصة إذا ما أصرّت كل الأطراف على دفع المنطق القائم على المناطقية إلى أبعد مدى. ونستطيع أن نزعم في هذه العجالة أن سقوط مزيد من الدماء يمكنه أن يعيد خيار التقسيم إلى الواجهة مرة أخرى، ويجعل بالتالي فريق التقسيم المعزول حالياً، يقوى ويكبر ويستقطب مزيداً من الأتباع، لاسيما وأن الدول الغربية وفي طليعتها فرنسا وبريطانيا، ما زالت تسهم بشكل غير مباشر في الدفع نحو مزيد من التعفن على مستوى الأوضاع الأمنية. أما قدرة الدول العربية والإقليمية في التأثير في الأوضاع الليبية، فتظل في اعتقادنا جد متواضعة، لأسباب عديدة يتعلق بعضها بانشغال القوى العربية الكبرى والفاعلة بترتيب أوضاعها الداخلية من جهة، وانخراط بعضها بشكل كبير في مواجهة تداعيات الحرائق المشتعلة في سوريا والعراق واليمن من جهة أخرى.