تؤشر التطورات الحاصلة في أعقاب ما جرى الاصطلاح على أنها ثورات الربيع العربي، إلى أن مصر، والعرب عموماً، في مسيس الاحتياج إلى جهود تنويرية دؤوبة. وينشأ ذلك عن حقيقة أنه إذا كانت الثورات هي رافعة الشعوب للدخول إلى عصر الحداثة والديمقراطية، فإنه بدا- مع الصعود الكاسح لجماعات الإسلام السياسي إلى صدارة المشهد- كأن ثورات العرب تتوجه بهم إلى قلب العصور الوسطى بكل ما فيها من الجمود والتسلط. حيث بدا واضحاً أن هذه الثورات قد فتحت الباب واسعاً أمام انفجار المكبوت التقليدي الذي لايزال البعض مأخوذاً بانبعاثه من وراء زخارف الحداثة البرانية وبراقعها التي تعامل الكثيرون مع حضورها على أنها علامة على عبور المجتمعات العربية لعتبة الحداثة، متجاهلين حقيقة أن الدخول الفاعل في الحداثة مشروط بامتلاك ما يؤسسها من العقلانية والتفكير الحر، ولا يمكن أن يكون موقوفاً على مجرد الاستهلاك الكسول لنتاجاتها الصلبة.
وهكذا، فإنه إذا كان العرب قد تصوروا أن تحديث الواقع سوف يؤدي إلى تحديث العقل، فإنهم راحوا يدركون أن كل ما راكموه من الحداثة في الواقع لم يؤثر على أي نحو في استمرار حضور عقل التقليد الذي ينفجر الآن في وجوههم مهدداً كامل وجودهم.
ولعل العرب كانوا يتصورون أن تحديث البنية التحتية (الواقعية) سوف يتكفل بإنتاج ذات التحديث في إطار البنية الفوقية (العقلية)، ولم يدركوا أن فاعلية هذا القانون ليست مطلقةً أبداً، وأن تحديث الواقع التحتي يمكن أن يكون مدخلاً لاستمرار العقل على جموده وتقليديته. لأنه إذا كان النشاط الإبداعي الفاعل للفعل يرتبط بما يجابهه به الواقع من تحديات تجبره على أن يبدع لها حلولاً، فإن ما يقدمه التحديث القشري للواقع من حلول ميسورة جاهزة يلغي الشروط التي يكون معها العقل على الاشتغال الإبداعي الفاعل. وهكذا تنبثق المفارقة التي يكون معها التحديث القشري للواقع سبباً في دوام سيادة العقل التقليدي. ولعل في ذلك تفسيراً لما يحصل حالياً في العديد من البلدان العربية الكبرى التي تملك تاريخاً طويلاً من التحديث القشري الجاهز للواقع، وتشهد الموجات الأعنف من انفجارات عقل التقليد المكبوت؛ وهو العنف الذي يستدعي ضرورة مراجعة صيغة التحديث التي اشتغل بها العرب على مدى القرنين الفائتين.
ولعله لا معنى لهذه المراجعة إلا ضرورة الانشغال بتنوير العقل بدلاً من الاكتفاء بمجرد تحديث الواقع الخارجي. وهكذا فإنه إذا كانت صيغة التحديث التي اشتغل بها العرب تقوم أساساً على الاكتفاء باستهلاك المنتجات المادية الصلبة للحداثة، فإنه يلزم الآن السعي إلى امتلاك الأساس الجواني الذي تقوم عليه الحداثة والذي يتمثل في العقل العلمي النقدي. ولعل ذلك هو جوهر التنوير الذي لا معنى له إلا الخروج بعقل الجمهور من دائرة القبول والتسليم بالمستقر والمشهور من دون تفكيرٍ أو فحص إلى دائرة الاختبار المتروّي والفحص الناقد. ومن دون ذلك، فإنه ليس من مستقبل للعرب؛ حيث يبقى أن الانتشار الواسع لعقل القبول والتسليم بالمشهور والمستقر من دون فحص بين الجمهور هو ما يمد جماعات الإسلام السياسي بالفيالق التي تحارب تحت راياتها السوداء ناشرة الخراب والفوضى في مشرق العالم العربي ومغربه.
لعل الوعي بضرورة مراجعة الصيغة التي يدير بها العرب مشروعهم للتحديث يؤول إلى ضرورة إعادة النظر في التوصيفات الرائجة للأزمة العربية الراهنة. فإذا كان الكثيرون قد درجوا على النظر إلى الأزمة العربية باعتبارها من طبيعة سياسية، فإنه يلوح الآن أن الأزمة ذات أبعاد ثقافية غائرة. وهنا يلزم التنويه بأن اعتبار الأزمة العربية ذات طبيعة سياسية هو ما يقف وراء الارتباكات التي يشهدها بلد كمصر على مدى السنوات اللاحقة على اندلاع ثورته. وتتأتى هذه الارتباكات من أنه إذا كان توصيف الأزمة أنها ذات طبيعة سياسية يؤول إلى اختزال حلولها ضمن إطار ما هو إجرائي وعملي فقط، فإن اعتبارها ذات طبيعة ثقافية غائرة يحيل إلى ضرورة التماس حلولها ضمن إطار ما هو تأسيسي وعقلي. وفي حين أنه يمكن إنجاز الحلول ذات الطبيعة الإجرائية العملية في إطار «المدة القصيرة»، فإن إنجاز الحلول التأسيسية المرتبطة بإحداث تغيرات عقلية بنيوية يحتاج إلى «مدة طويلة». ويحدث الارتباك حين تكون الأزمة القائمة ذات طبيعة ثقافية عقلية؛ وبما يعنيه ذلك من أن تجاوزها يرتبط بالتفكير في إطار المدة الطويلة. وبالرغم من ذلك فإن شرائح من النخبة تظل تبحث لها عن حلول إجرائية تتحقق في مدة قصيرة، مع أن مثل هذه الحلول لا تكون منتجة أبداً.
وهنا تجوز الإشارة إلى المأزق الذي تجابهه الديمقراطية في مصر والعالم العربي عموماً. فقد استقر النظر إلى هذا المأزق ضمن حدود ما هو سياسي فحسب؛ وبما ترتب على ذلك طبعاً من حصر الحلول المُقدمة له ضمن سياق ما هو إجرائي وعملي. ورغم ما جرى من استيفاء الجوانب الإجرائية للديمقراطية (من دستور وأحزاب وبرلمان ولجان انتخابات وغيرها)، فإن أحداً لا يجادل في أنه لم يتمخض عن هذا الاستيفاء ممارسة مستقرة ومنتجة للديمقراطية في العالم العربي. وبالطبع فإن ذلك يرتبط بأن الاستيفاء الكامل لجوانب الديمقراطية الإجرائية من دون امتلاك شرطها الثقافي والعقلي الذي يتمثل في الحضور الفاعل للفرد الحر القادر على التفكير المستقل (وهو المواطن الحديث الذي برز الوعي بضرورة حضوره قبل قرن من الآن)، لن يؤدي إلا إلى ممارسة ذات شكل ديمقراطي، ولكن بمضمون تسلطي. وإذ يحيل ذلك إلى ضرورة امتلاك الشرط الثقافي العقلي (المتمثل في الفرد الحر القادر على التفكير المستقل)، فإن ذلك مما لا يمكن تحقيقه بين العشية والضحى.
وغنيّ عن البيان ما يعنيه ذلك من أنه لا مجال لبناء ديمقراطية منتجة في العالم العربي إلا عبر الانخراط الجدّي في إنجاز مهام التنوير. والحق أن مصائر العرب جميعاً تكاد تكون موقوفة على تصدي النخبة العربية لإنجاز هذه المهام. فمتى تُقلع النخبة العربية عن استنفاد طاقتها في السياسة لتنصرف إلى القيام بدورها الأبقى في عالم الثقافة؟
نقلا عن صحيفة الخليج