الاجابة بسيطة في كلمتين: دولة عادلة. والعدل هنا متعلق بسيادة القانون، ولا يمكن لأي قانون ان يحظى “بالعدالة” والسيادة الاّ اذا كان افرازاً للديمقراطية الحقيقية التي تضمن مسألتين: احداهما ان يتولى الناس ادارة شؤونهم من خلال ممثلين يختارونهم، ومؤسسات يشاركون فيها على اساس المواطنة التي تقرر لهم المساواة في الحقوق والواجبات، اما المسألة الثانية فهي ذات بعد اخلاقي، حيث لابدّ ان تستند هذه الديمقراطية لمرجعية اخلاقية ترقي بسلوك الناس وتهذب طباعهم، وهذه المرجعية هي “روح” الديمقراطية التي تحررها من صفتها “الآلية” وتسمو بها فوق “المرجعات” المختلفة، وتستند المرجعية الاخلاقية هنا الى “مشتركات” المجتمع التي تتوافق عليها اغلبيتهم على اساس احترام العقائد والافكار والنظام العام.
الدولة العادلة بهذا المعنى الذي تضمنه الورقة النقاشية السادسة لجلالة الملك تستمد “مدنيتها” من مدنية المجتمع، لأنه لا يوجد في خبرتنا التاريخية دولة دينية اصلاً، كما ان بلدنا لم يقم على حكم عسكري، وبالتالي فإن الدولة المدنية كما وصفها الملك هي دولة مؤسساتية وليست علمانية، مؤسساتية ينتصر فيها القانون للجميع، وغير علمانية حين ينصرف هذا المصطلح الى خصومة مع الدين، او حين يوظف لحساب طبقة سياسية ضد اخرى.
ورقة الملك حسمت الجدل الذي دار في مجتمعنا حول علاقة الدين بالدولة، حيت لا تعارض بين مدنية الدولة ومرجعيتها الاسلامية، كما قال الملك، وهو ذات المعنى الذي اشارت اليه وثيقة اصدرها الازهر (2011) في اطار دعم تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة القائمة على الدستور، والفصل بين السلطات، والنظام الديمقراطي القائم على الانتخاب الحر، واحترام منظومة الحريات الاساسية وحقوق الانسان، والالتزام بالتعددية واخلاقيات الاختلاف…الخ،
لكن الاهم من حسم سؤال النظرية للدولة المدنية هو الاجابة على سؤال التطبيق، فالبعض –كما ذكر الملك في الورقة النقاشية- يظن انهم الاستثناء الذي يعفى من تطبيق هذا المبدأ (سيادة القانون) على ارض الواقع،- هنالك بالطبع امثلة كثيرة على ذلك ، كالتجاوزات التي تحدث في التعيينات الحكومية بسبب الواسطة والمحسوبية، او تساهل بعض المسؤولين في تطبيق القوانين مما يفسح المجال للتساهل الذي يقود لفساد اكبر، واضعاف قيم المواطنة ايضاً، زد على ذلك ما اصاب الجهاز الاداري من ضعف، وما يحتاجه مرفق العدالة من جهود لتحسين ادائه وتحصينه.
هذه الوقائع التي اشار اليها الملك تشكل “مربط” الفرس الذي يستدعي التوقف واعادة النظر، فما هي الوصفات التي يمكن من خلالها ان “نعالج” هذا الخلل الذي اصاب “حركة” الدولة في صميم “مدنيتها”؟ الاجابة كما يطرح الملك عنوانها “سيادة القانون”، وهذه السيادة تقتضي التزام الحكومات والمؤسسات الرسمية ويقظة المجتمع ايضاً، فلا “مدنية” بدون احساس الناس وقناعتهم بإن الدولة التي ينتمون اليها هي “للجميع”، باعتبارهم مواطنين فيها وليس رعايا، ولا مدنية بدون وجود مشروع وطني بهوية جامعة يلتقي عليها الاردنيون من وحي ادراكهم ان هذا المشروع يمثلهم، وانه ضرورة لتحقيق اهدافهم ومطالبهم ، وهو ( المشروع) وطني وتاريخي بمعنى واحد، يستمد وطنيته من الانتماء للاردن الوطن ، كما يستمد تاريخيته من اللحظة التاريخية التي تستوجب حسم الاسئلة المعلقة والمتعلقة بالهوية والمصالح والارتباطات والعلاقات، بإجابات واضحة لا تقبل اللبس، من اجل التأسيس لاصلاح سياسي حقيقي ينقلنا من دائرة الشك الى اليقين ومن مجرد الاحساس بالخطر الى مواجهته فعلا.
على اساس الورقة الملكية يجب ان نحاسب الحكومات والمؤسسات، وان نحاسب المجتمع ايضاً، فلا مجال بعد هذه الرؤية التي وضعت الجميع امام مسؤولياتهم لاي اعتذار عن خطأ متعمد، او خلل مقصود، واذا كان لنا ان نبدأ فعلاً بالرد على رسائل الناس ومطالبهم وهواجسهم فمن هنا …من الدولة العادلة، دولة المؤسسات والقانون لا الدولة التي يريدها البعض “استثناء” لهم دون غيرهم.
70 2 دقائق