تشهد الأوضاع الدولية الراهنة تحديات كبرى ناجمة عن فشل المجموعة الدولية بقيادة الأمم المتحدة، في التوصل إلى حلول ناجعة وقابلة للتطبيق بالنسبة للحروب والنزاعات التي تعرفها مناطق مختلفة من العالم، لاسيما في قارتي إفريقيا وآسيا، حيث إنه وبقدر السهولة الفائقة التي تؤدي إلى اندلاع الحروب، نتيجة لاستسهال الأطراف المتصارعة لهذا الخيار الانتحاري، فإن التحول إلى وضعية السلم وتوقيف آلة القتل والدمار، يتسم بصعوبات يتعذر تجاوزها في أغلب الحالات، بسبب التهاب المواقف، وتفجر مشاعر الكراهية المتزامنة مع تصاعد التصريحات العدائية بين مختلف الأطراف المتناحرة في ساحات الموت.
لقد عجزت القوى الإقليمية والدولية حتى الآن، عن إيقاف الحروب التي اندلعت بسرعة فائقة في كل من مالي وليبيا والصومال وسوريا والعراق واليمن وأفغانستان وغيرها من المناطق، التي أضحت توصف ب«قوس الأزمة»، وحتى الدول التي جرى التوصل فيها إلى عقد اتفاق سلام ما بين المجموعات المتصارعة، ظلت وضعية انعدام الاستقرار متواصلة فيها، نظراً للصعوبة الكبيرة التي تواجه عمليات إعادة بناء مؤسسات الدولة المنهارة، وبخاصة ما يتصل منها بالجانب الأمني، لأن الميليشيات التي كان يقودها أمراء الحرب لا يمكنها أن تتحول بين عشية وضحاها، إلى شرطة مدنية قادرة على توفير الأمن والاستقرار لكل أفراد المجتمع.
ومن أجل توضيح بعض جوانب هذه الفكرة، يمكننا الانطلاق بداية من التجربة الفرنسية في دولة مالي، حيث إنه ورغم الاتفاق السياسي السلمي، الذي أُبرم في الجزائر بين السلطة في الجنوب والمعارضة في الشمال، ما زالت القوات العسكرية الفرنسية تواجه تحديات أمنية كبيرة من أجل القضاء على المجموعات الإرهابية، التي ترفض الانخراط في العملية السياسية الجديدة؛ كما أن ضعف الدولة المركزية وعدم قدرتها على بسط سلطتها على كل ترابها الوطني، يضاعف بشكل لافت من مخاطر انزلاق الأوضاع نحو حرب شاملة في كل لحظة، لأن القوات الأجنبية لا تستطيع البقاء في شمال البلاد إلى ما لا نهاية.
وتظل الحالة الأفغانية، أكثر إثارة للتساؤل بالنسبة لجدوى الجهود الدولية الرامية إلى إعادة بناء وترسيخ قواعد الأمن والاستقرار في كل مناطق الصراع المسلح في العالم، حيث وصلت كل المحاولات الأمريكية والأطلسية والغربية من أجل استعادة السلم المفقود في أفغانستان إلى طريق مسدود، وذلك بعد مرور سنوات عديدة على قيام القوات الأمريكية باحتلال هذا البلد، وإزاحة حركة «طالبان» عن الحكم. كما فشلت الأمم المتحدة في إعادة تأهيل جمعيات المجتمع المدني، رغم النجاحات المتواضعة التي تم تحقيقها على مستوى الترقية الاجتماعية للمرأة الأفغانية، وعلى مستوى تأهيل المنظومة التعليمية من خلال إعادة فتح المدارس والجامعات من أجل المساهمة في خلق وضعية تعطي للمواطنين الإحساس بأنهم يعيشون في دولة تملك أبسط مقومات الاستقرار المجتمعي.
والشيء نفسه يمكن أن يقال بالنسبة للأوضاع في العراق بعد الغزو الأمريكي، الذي حدث سنة 2003، فقد كانت بضع أسابيع كافية من أجل تفكيك الجيش، الذي كان يُعد من بين أقوى الجيوش في منطقة الشرق الأوسط، بينما باءت بالفشل مجمل المحاولات التي هدفت حتى الآن إلى تشكيل جيش وطني عراقي قوي غير خاضع للتجاذبات الطائفية. وعليه فقد تحول العراق مع مرور الزمن إلى ساحة صراع بين القوى الإقليمية من أجل الهيمنة، وبسط النفوذ، وأضحى عرضة للابتزاز الرخيص ما بين طهران وأنقرة، وصارت الميليشيات الكردية و»الحشد الشعبي» أقوى من الجيش النظامي، الذي جرى بناؤه وتدريبه وتسليحه من طرف القوات الأمريكية الغازية، وضاع بذلك السلم الأهلي والانسجام المجتمعي الذي كان سائداً طوال قرون من الزمن ما بين مختلف العرقيات والطوائف الدينية.
ونستطيع أن نؤكد في سياق متصل أن منظر الجلبة التي عرفها مجلس الأمن على خلفية ملف الهدنة في مدينة حلب السورية، مثل أقصى وأفظع مظاهر العجز الدولي في مواجهة الصراعات القاتلة والمدمرة التي تدمي قلوب الملايين من البشر، لأن القوى الكبرى كانت وما زالت معنية بالدرجة الأولى بالدفاع عن مصالحها الجيواستراتيجية الحيوية على حساب الشعوب والأمم المكلومة، في الوقت الذي بدأت تتحوّل فيه الأمم المتحدة إلى مسرح لعرائس الدمى في سياق مشهد تراجيدي سيئ الإخراج، لأن المنطق الدولي المبني على عنصر القوة الغاشمة يضيع في الأغلب بين شيطان التفاصيل، ويغرق في أتون منطق ثنائي عقيم يريد الجانب الأول أن يبرهن أن الدجاجة هي أسبق من البيضة، بينما يسعى الثاني إلى التدليل على أن البيضة أسبق من الدجاجة… !
صفوة القول في ما ذهبنا إليه في هذا المقام، إن من يستعجلون دق طبول الحرب، ينسون أو يتناسون أن إنهاء دوامة العنف والدم والدموع، أصعب ألف مرة من إطلاق رصاصة الفتنة التي تأتي على الأخضر واليابس، فقد سبق للبنانيين أن انجروا في سبعينات القرن الماضي نحو حرب أهلية شاملة، ولم يصلوا بعد مرور قرابة 3 عقود من الزمن، إلى إرساء قواعد سلم دائم، وما زالوا حتى الآن يعيشون في ظل هشاشة سياسية دائمة، لأن توقف القتال وإن كان يمثل مطلباً إنسانياً ثميناً، فإنه لا يعني بالضرورة عودة سريعة إلى التعايش والانسجام المجتمعي، لأن عطار المجتمع الدولي لا يمكنه أن يصلح ما أفسدته حروب الذبح والقتل والتشريد.