نون والقلم

أوباما وما بعده

«هذا الرجل لم يخرج من عقل زيوس، كبير الآلهة، ولا كان في الأصل زفرة إلهية تجسَّدت إنساناً. باراك أوباما رجل عادي يمثل خلاصة تراث أفريقي وأميركي. بذل جهداً واعياً في تكوين نفسه ووضع برنامجاً سياسياً من مواد متجذرة في الماضي الأميركي».

أخبار ذات صلة

هذا الاقتباس من مقال لمؤرخ أميركي يرفض أن يدخل السباق الجاري حالياً لتقويم تجربة أوباما في البيت الأبيض. كثيرون في أميركا وخارجها بدأوا بالفعل يحللون ولايتي أوباما في منصب الرئاسة ويقيمون أداءه. يقول كلوبينبيرغ، صاحب الاقتباس، إنه وإن كان جائزاً بل ومرحباً به إقبال الأكاديميين والمفكرين عموماً على تقويم فترة أوباما في الحكم، إلا أنه من غير الجائز أن يتولى هذا التقويم المؤرخون قبل انقضاء وقت مناسب. أتفق مع المؤرخ لأن مهمته هو وزملاؤه تختلف كثيراً عن مهمة الإعلاميين مثلاً والسياسيين أيضاً. المؤرخون يحتاجون عادة إلى وقت أطول من المعتاد لإصدار حكم على نظام أو رئيس انتهت ولايته، فما البال وهم مطالبون بالحكم على مرحلة تولى فيها رجل بقدرات وصفات أوباما رئاسة الدولة الأعظم في العالم. هؤلاء بلا شك في حاجة إلى وقت غير عادي لاكتشاف مختلف الأبعاد التي تخلفت عن مرحلة استمرت ثماني سنوات حافلة بالتطورات والقرارات الخطيرة.

لا أظن أننا سننتظر طويلاً حتى يلم المعلقون والأكاديميون بالأبعاد كافة التي خلَّفتها إدارة الرئيس أوباما ليصدروا أحكامهم عليها. صبر الكثيرين نفد. صبرهم نفد لأن مرحلة أوباما نفسها سبقت الجميع فأصدرت حكماً على نفسها حين أفرزت نقيضها حتى قبل أن تصل إلى نهايتها. جاء الحكم، كما رأينا وكما نرى، في شكل شخص غير عادي يحمل اسم دونالد ترامب ويتصف بصفات غير عادية وينطق بلغة سياسية غير مألوفة ويحشد أعداداً استثنائية من المشجعين والأنصار.

المعروف عادة، والمتوقع غالباً، أن يأتي المرشحون الجدد للانتخابات الرئاسية من صفوف النخبة الحاكمة، أو أن يكونوا على الأقل غير بعيدين كثيراً من التيار العام في هذه النخبة. قد يختلفون في ميول وسرعة بديهة ودرجة تعليم وأصول اقتصادية واجتماعية، ولكن في كل الأحوال لن يشذ أحدهم فيأتي مختلفاً جذرياً. نظرياً لا يحدث هذا الأمر إلا في أجواء كارثة كالهزيمة في حرب أو انهيار اقتصادي أو ثورة شعبية تسقط النخبة الحاكمة وتأتي بأخرى. ومع أن شيئاً من هذا كله لم يحدث إلا أن رجلاً بعينه اقتحم حلبة السباقات الانتخابية وسط سخرية ولا مبالاة الملايين وأهمهم القيادات الحزبية الأميركية ونجح في مدة لا تزيد كثيراً على عام واحد في أن يكون المرشح الذي يهدد بالخطر توازنات النظام السياسي الأميركي كافة.

تغيّرت الساحة السياسية الأميركية في عام، كما لم تتغير في عقود أو قرون. بدأت الرواية بفرد، وبدقة أكثر، بدأت بحال خبل ساد الظن وقتها أنها شخصية، لا تعبر عن قطاع أو آخر في الرأي العام أو في القواعد الانتخابية للحزبين الحاكمين. كانت آخر تجربة لحال أقرب ما تكون إلى الخبل هي حال المرشح جورج بوش الابن، ولكن جاء ترشيحه في ذلك الحين منتظماً ومرتباً تقف وراءه عائلة حاكمة بالوراثة وحزب عتيد ومصالح مالية هائلة. بمعنى آخر شيء من الخبل محكوم بعدد من الأوصياء والمرشدين مكلفين بضبطه وتوجيهه والتحكم في مستواه.

لفت منذ اليوم الأول لظهور ترامب كمرشح مفرد ليغرد خارج السياق أنه لا يزعم أنه يشبه أو يقلد أحداً من زعماء أميركا وساستها ولا يريد أن يتشبه بأحد. إلا أنه، ومن دون أن يدري، كان يفعل كل ما من شأنه أن يكشف للناس العاديين أنه نقيض رجل آخر محدَّد يسكن في البيت الأبيض اسمه باراك أوباما، نقيضه في كل شيء حتى في التفاصيل. أوباما أسود وهو أبيض بل وأشقر. لأوباما عائلة محافظة من زوجة وابنتين ولترامب عائلة غير محافظة على الإطلاق. باراك نشأ وتربى في بيئة فقيرة ودونالد نشأ في بيت مليونير. أوباما كان أول مرشح للبيت الأبيض من قلب النخبة المثقفة الأميركية وربما أحسن من كتب من بين كل رؤساء أميركا خطاباً سياسياً بأسلوب بالغ الرقي، أما دونالد فهو أول مرشح للبيت الأبيض يعترف أنه لم يقرأ كتاباً في حياته وربما لا يستطيع كتابة سطور قليلة بلغة محترمة، والدليل هو اللغة والأسلوب اللذان استخدمهما في الرد على منافسته في الحملة الانتخابية هيلاري كلينتون.

أقول إن ظهور ترامب في نهاية عهد أوباما لم يأت مصادفة. ترامب وما أعلنه من تهديدات عنصرية للأميركيين السود والمهاجرين المكسيكيين واللاجئين المسلمين، وما أعلنه عن نيات استئناف الحرب الأميركية المتوقفة في العراق ولكن بمقابل، وتقارب أقوى مع فلاديمير بوتين ورضاء عام عن كل الحكام الذين يضطهدون المعارضة تحت حجة أو أخرى وتشجيع لهم، وما أعلنه عن خيبة أمل الأميركيين في العولمة وفي اتفاقات التجارة الحرة وخروج الشركات الأميركية للعمل في الخارج. هذا كله وغيره مما أعلنه ترامب خلال الحملة الانتخابية، هو في الحقيقة عناوين عريضة لردود القوى «الشعوبية» على سياسات عهد أوباما.

أوباما كان الرئيس الأمثل للاستمرارية التي تلتزم المحافظة عليها قيادات النخبة الحاكمة في أميركا. تحدث أوباما مطولاً خلال حملته الانتخابية وتجربته كناشط في المجتمع المدني عن التمييز العنصري في أميركا وفي عهده تدهورت أحوال المواطنين السود. وعد أوباما بتصفية معتقل غوانتانامو ولم ينفذ وعده. أتاحت الأزمة المالية التي تصادف وقوعها مع توليه السلطة الفرصة له ليتولى تهذيب القوة المبالغ فيها لجماعة «وول ستريت» وتقييد نفوذها وتخفيف هيمنتها، لكنه ضيَّع الفرصة وانتهي خاضعاً للقوى المصرفية وملتزماً إرادتها وفاقد العزم على وقف تدهور أوضاع المساواة واتساع الفجوات في الدخول. النتيجة هي غضب شعبي على النخبة الحاكمة وفقدان الثقة في النظام السياسي الأميركي. وهكذا خرج ترامب من عباءة أوباما مرشحاً لمنصب الرئاسة الأميركية. بعبارة أخرى، من دون مرحلة أوباما ما كان يمكن أن يظهر ترامب بهذا الزخم وفي هذا الوقت.

أخبار ذات صلة

Back to top button