هذه ذكرى يوم عظيم، يوم غيّر تاريخاً كان سائداً، ومهّد لتاريخ سيسود إلى آخر الزمان، يوم هجرة سيد البشر، المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، من قريته، أحب البلاد إلى قلبه، ذكرياته، ورائحة أهله، وحنينه للذين رحلوا، وشوقه للذين سيتركهم خلفه، وخوفه على الذين اتبعوا دعوته وآمنوا برسالته، بعد كل الذي رآه من المشركين المكذبين برموزهم الشريرة الفاجرة، أولئك الذين جاروا فعذبوا وأهانوا وقتلوا، من قاوموا التوحيد واستمروا في ضلالهم، يعبدون الأصنام ويقدسون الملذات.
في مثل هذا اليوم، قبل 1437 سنة هجرية، كانت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة، قاصداً يثرب، ترك قوماً لم يعرف منهم غير النكران والجحود، إلى قوم وجد فيهم الإيمان والإخلاص، معه صاحبه، الصديق الذي ترك خلفه المال والعيال، وسار مع من صدق كل كلمة قالها له، وصمد كالجبل في وجه الحاقدين، ووضع روحه على كفه فداء لخير المرسلين، سلكا دروباً، وعبرا صحارى وجبالاً، وباتا في «الغار»، والأشرار يطاردونهما، وعين الله تحرسهما، تعمي الأبصار والبصائر.
فهذه هجرة ربانية لحامل الرسالة الخاتمة، خاتمة الرسالات إلى البشرية جمعاء، ومحطتها الأولى تلك المدينة التي لن يفارقها النور أبداً، منذ أن وصلها الحبيب وصاحبه، تباركت يثرب الطيبة، ولبست ثوباً جديداً، وغدت «مدينة منورة»، كيف لا، وهي التي انتزعت آلام الحنين والشوق لمكة، وزرعت حباً في قلب حبيبها، فلم يستبدلها في حياته، وأصبحت مثواه عليه الصلاة والسلام بعد وفاته.
عظات ودروس وعبر، يمثلها لنا يوم الهجرة، وكم نحن بحاجة إليها اليوم، حيث تكالبت من حولنا الشرور، ومزقتنا الأطماع، وشتتت شملنا النعرات، وتباينت بيننا المواقف والمعتقدات، وسمحنا لأنفسنا بالانجراف خلف المتمذهبين والمتحزبين، وغصنا في متاهة المتأولين، بينما ديننا الذي أوصله لنا رسولنا في أصله وفي سيرته وأقواله وأفعاله، كان سهلاً، دين عبادة، ودين معاملة، ودين سماحة، ودين يسر، ودين عفو، قام على المحبة، فلماذا لم يستفد الذين يحملون اليوم رايات صفراء وسوداء، من العبر التي تركها لنا عليه الصلاة والسلام في يوم الهجرة؟.