ربّما كان النصر الأهمّ الذي حقّقه بشّار الأسد، على امتداد سنوات الثورة السوريّة، والأذى الأكبر الذي أنزله ببلده وشعبه، أنّه دفع الثورة إلى العسكرة. فبعنفه المتمادي، نجح الأسد في جعل الحرب الأهليّة والعنف المضادّ أفقاً وحيداً لها. بهذا قُطعت الثورة عن النسق الكونيّ الصاعد للثورات، الذي افتُتح في أوروبا الوسطى والشرقيّة خلال 1989-91، واستُدرجت إلى النسق البائد الذي عرفته الحقبة الممتدّة من 1917 حتّى نهاية الحرب الباردة، حيث العنف الأداة المعلنة والغاية المطويّة في آن.
ولئن حيل بهذا دون اندراج الثورة السوريّة في الوجهة الكونيّة الأقوى، فلقد تغذّت الحيلولة هذه على التكوين الدينيّ المتعصّب لثوّار العسكرة، وعلى ثقافة الأصدقاء العرب للثورة ممّن لا تزن الحداثة والتنوير عندهم أكثر ممّا تزنه ذبابة بجناح واحد.
هنا شرع يتكرّر، على اختلاف الأسماء والعناوين، ما عرفته الثورة الفلسطينيّة التي لم تُعدم بدورها أصدقاء عرباً مشابهين. فبعد خلفيّة التعاطف مع ألمانيا النازيّة، كان الرعي المديد في المرعى السوفياتيّ. ولئن بقيت خجولة وأكاديميّة محاولات البعض الربط بين المحنة الفلسطينيّة والمحرقة اليهوديّة، واعتبار الفلسطينيّين ضحايا الضحايا، كُلّف وديع حدّاد وزملاؤه بتعريف العالم بالمشكلة الفلسطينيّة عن طريق خطف الطائرات! بعد ذاك قطع التشكيك الفلسطينيّ، والعربيّ، بالمنشقّين الروس شعرة معاوية الأخيرة مع الأجندة الكونيّة الجديدة فيما هي تباشر الصعود، وفي صدارتها الديموقراطيّة ومناهضة التوتاليتاريّة.
لكنّ الآخر لم يكن بريئاً بدوره. فلئن استنكف الفلسطينيّون، كمثل غير حصريّ، عن استيراد تجربة المحرقة والبناء عليها، فإنّ الإسرائيليّين استنكفوا عن تصديرها وإتاحتها لمشاركة الآخرين، حرصاً منهم على نقاء الاستثناء وحصريّة الاستضحاء.
وشيء كهذا عرفته الثورة السوريّة وتعرفه. ففي مقابل تنظيماتهم المسلّحة وممثّليهم السياسيّين الذين لا يُحسدون عليهم، ظهر قصور كونيّ لافت في العزوف عن احتضان السوريّين، ولو بإقامة منطقة عازلة لا يطير فيها طيران الأسد ولا تُرمى عليها البراميل.
لقد كان اللقاء بين الأوباميّة والثورة السوريّة فرصة انقلبت إلى مرارة، لأسباب عدّة تتجاوز السبب الواحد البسيط، والمسؤوليّة الواحدة الحصريّة.
فأوباما، المتخاذل في سوريّة، والمتّهم بالممالأة في الشرق الأوسط، ليس كذلك في بلده وفي العالم الكبير الذي يتأثّر به. فهو، هنا، رئيس تقدّميّ يُستدلّ على تقدّميّته في أمور عدّة تتعدّى الاختلاف في أصوله اللونيّة والدينيّة، وتمتدّ من مناهضة الحروب إلى أوباما – كير، ومن اتّفاقيّة الباسيفيكي العابرة للدول إلى الزواج المثليّ، ومن فتح ملفّ السجون إلى إنهاء النزاع مع كوبا. لكنّ الأوباميّة أيضاً، وتحت وطأة التجربة العراقيّة خصوصاً، مسكونة بتحفّظ عن «العرب»، على ما في التعبير من تعميم، لا يقلّ عن التحفّظ العربيّ عنها. فالعرب، بحسب سرديّة تشيع اليوم، كانوا طويلاً الاستثناء الديموقراطيّ في العالم، فحينما قامت ثوراتهم انقلبت سريعاً إلى عنف محض.
وبغضّ النظر عن مدى الدقّة في التحفّظين المتقابلين، وعن غياب تفاصيل أساسيّة عن كلّ منهما، فما حدث هو تفويت فرصة كانت لتكون نموذجيّة في إعطاء أوباما مدى شرق أوسطيّ يتساوق مع الأبعاد الأخرى في سياسته، وإعطاء الثورة السوريّة البُعد الكونيّ الذي لا بدّ منه في عالم اليوم.
نقلا عن صحيفة الحياة اللندنية