منذ هجمات سبتمبر (أيلول) عام 2011 شّكلت الولايات المتحدة جبهًة عالميًة للحرب على الإرهاب. وقد شملت تلك الجبهة مناحي عسكرية واستخبارية واستراتيجية وفكرية.
وقد تضمن ذلك احتلال أفغانستان والعراق٬ ونشر الجيوش والقواعد٬ والبحث عن حلفاء في مكافحة الظاهرة في كل مكان. ولأّن المحافظين الجدد كانوا مؤثرين في إدارة بوش الابن٬ وهم مجموعٌة فكريٌة وآيديولوجية؛ فقد تحدثوا منذ عام 2002 عن «حرب الأفكار»؛ وهذا يعني أن «العالم الحر»٬ وبني الإنسان٬ لا يحاربون أفراًدا أو أشخاصا أو مجموعات صغيرة؛ بل يكون عليهم أن يحاربوا فكرة دينية متعصبة لثلاث جهات: إنها جزء من دين كبير وشاسع٬ وبالتالي فكما أغرت الآلاف هناك إمكانية لإغراء آلاف جديدة.
وأنها ترفض باسم الدين٬ الآَخَر المسيحي واليهودي والغربي٬ ولا تتورع عن القتل والترويع٬ وأنها تجد بيئاٍت حاضنة في الأوساط المتشددة٬ وأنها بسبب تماسكها الآيديولوجي تتحول إلى شبكة مترابطة الحلقات وشاسعة الامتداد٬ وقادرة على إصدار الأوامر٬ كما أن حلقاتها قادرة على المبادرة من دون أوامر مباشرة. على أنه رغم الغزو العسكري٬ وحرب الأفكار٬ والحملات الشعواء على الوهابية٬ وعلى النظام في المملكة؛ فإّن النتائج الاستراتيجية للحرب على الإرهاب ما ظهرت تماًما إلاّ في أيام أوباما.
ففي عهد بوش الابن كانت الرؤية الاستراتيجية لا تزال أن الخصم الرئيسي للولايات المتحدة في الشرق هو النظام الديني الإيراني المتعصب. وقد كان التفكير قبل هجمة القاعدة على الولايات المتحدة٬ إمكان ضرب إيران بدلاً من العراق٬ لأن الولايات المتحدة ينبغي أن تتصدى لخصومها بنفِسها حتى لاُتستضَعف وقد صارت قطًبا أوحد! وعندما ذهبُت للتدريس بهارفارد في عام 2002 وكانت هناك استعداداٌت محمومٌة سريٌة وعلنيٌة لضرب العراق إرعاًبا للعرب وللسعودية؛ كان هناك (في أوساط الأساتذة بالجامعة) من لا يزال يعتقد أّن إيران أولى بالضرب من صّدام٬ إنما إذا كان لا بد من ترويع العرب كما رّوعوا الولايات المتحدة٬ فلا ينبغي نسيان أّن إيران الخمينية هي أولَمْن تحدى أميركا٬ ولا تزال تسميها الشيطان الأكبر وتدعو عليها بالموت.
إنما في الوقت نفسه كان هناك لوبي إيراني قوي وصاعد وفي أوساط الحزبين الجمهوري والديمقراطي٬ يريد استعادة التحالف والصداقة التي كانت بين إيران وأميركا٬ أيام الشاه. ووقتها سمعُت في عدة مناسبات دعوات من أميركيين من أصول إيرانية لإدخال إيران في التحالف ضد الإرهاب٬ إّما لأن المتشدد لاُيواَجُه إلاّ بمتشدد (مارتن كريمر٬ وفؤاد عجمي) أو للخصومة الموروثة بين الشيعة والوهابية (ولي نصر).
إن المهَّم أّن التدخل الإيراني بالعراق والذي كان بين القبول والرفض لدى عسكريي واستخبارات بوش وليس لدى السياسيين والاستراتيجيين٬ صار سياسًة مقررًة أيام أوباما وبثلاثة معان: أّن الولايات المتحدة ما عادت قادرًة على الاستمرار في التدخل العسكري بالشرق الأوسط٬ وأنه لا بد من إعطاء القوي على الأرض دوًرا وهي إسرائيل وإيران وتركيا٬ هكذا بالترتيب وأن الإسلام الإيراني ليس تقدمًيا كما يظهر في نظام الحكم هناك٬ لكنه منضبط ولم يمارس عنفا علنيا ضد الولايات المتحدة٬ وهذا فضلاً عن عراقة الحضارة الإيرانية٬ مقارنة بالصحراء التي خرج منها العنف قديًما وحديًثا وأّن المصالحة مع إيران ضرورية لتجنب النووي من جهة٬ وإيقاف التهديد على إسرائيل من جهة أخرى٬ ولاستحداث جبهة عداء بين الإيرانيين الشيعة والعرب السنة٬ بعد أن عاد الثوران السلفي في العراق وفي نواح أخرى.
ظلّت مقاربة إدارة بوش لمسألة الصراع سياسية واستراتيجية إذن٬ رغم فكرويات المحافظين الجدد. أّما أوباما فرؤيته للصراعات ثقافوية٬ لأنه في الأصل مثقف وخريج كلية الحقوق بهارفارد٬ والمثقفون الإيرانيون في المنفى أصدقاؤه.
ومن دون تطويل: ما كانت الإدارة الخامنئية محتاجًة إلى الإغراء بمواجهة العرب دينًيا واجتماعًيا واستراتيجًيا٬ فقد عادت للعمل على ذلك منذ بداية عهد محمود أحمدي نجاد. وقد جعلتها الغنائم العراقية شديدة الجشع والجنون. وعندما أطلق الأوباميون يدها وضعت الخطط للإبادة والتهجير والقتل وباسم الدين ولا حرج.
وما تحرج الإيرانيون والمتأيرنون في الاغتيال٬ وتبرير الغزوات بالكفر والتكفير. وكما رّبت «القاعدة» والزرقاوي و«داعش» جيلين من الشبان على «التوحش»٬ دفعت إيران عشرات الألوف من الميليشيات الشيعية من لبنان وأفغانستان وباكستان والعراق وأفريقيا يقودهم الحرس الثوري وفيلق القدس لشن حروب إبادة٬ وإخضاع بالعراق وسوريا ولبنان واليمن.. وحروب استخبارية وتفجيرية في البحرين والسعودية والكويت.. وحروب تبشيرية بالتشييع في سائر أنحاء العالم العربي٬ ومن ضمنها فلسطين.
وأعرض الجميع عن مواجهة إيران وهي تغزو بلدانهم وتهدد استقرارهم الديني والاجتماعي والسياسي. السعودية حاولت لسنواٍت بضربة على الحافر وضربة على المسمار كما يقال تهدئة إيران.
لكنك لا تستطيع إلا أن تدافع عن نفسك ما دام الآخر هاجًما عليك يريد قتلك باسم الدين والقومية والصراع على الموارد جميًعا. ولو رحنا نسرد الأساليب والتكتيكات والممارسات الإيرانية٬ وآثارها التخريبية٬ وآِخُرها ما جرى حول الحج٬ والتهجير في سوريا٬ لضاقت بذلك الصفحات. إّن هناك جبهًة ثالثًة يراد إقامتها في وجه السعودية والغرب والإسلام. وهي تنفتح الآن علًنا وتريد إخراج السلفية من أهل السنة والجماعة. ولأّن أهل السنة مثل الشيعة جبهات العداء للسعودية والعرب والإسلام يعتبرون إسلامهم هو الصحيح والأوحد؛ فإّن في ذلك تكفيًرا للسلفيين مثل تكفير حسن نصر الله لهم.
وكما اهتدى الأميركيون والإيرانيون من قبل إلى استخدام أهل السنة ضد بعضهم البعض٬ بالتصوف وبالتشيع لآل البيت؛ فإّن الروس والبريطانيين والفرنسيين يتبينون فجأًة محاسن الإسلام التقليدي والـStream Main ويحاولون استحداث جبهة ثالثة ضد السلفية والسعودية٬ وإن تكن دينيًة هذه المرة! هناك ثلاث جبهاٍت عاملة ضد المملكة وضد العرب والإسلام: واحدة أميركية – غربية. وواحدة إيرانية. وواحدة تريد وضع التقليد السني العقدي والمذهبي في وجه السلفية الوهابية باعتبارها خارجه. والسعودية واعيٌة للتهديد الأمني والاستراتيجي وتواجهه.
ولذا أرى أنه يكون على الجهات الدينية السعودية المبادرة للحديث مع إخوانهم المتمسكين بالتقليد السني بشأن الاختلافات. وبيان هيئة كبار العلماء الأخير مقدمة صالحة لبدء الحوار أو متابعته. ويا للعرب والإسلام!.