يبدو أن القرار الفرنسي الذي أثار الجدل في اليومين الماضيين بمنع ارتداء “البوركيني” على شواطئ بعض المدن الفرنسية لم يكن قرارًا حكوميًا يدعم علمانية الدولة الفرنسية كما قيل، بل كان بواعز سياسي وبضغط يميني متطرف، فبعدما سقط القرار بحكم من مجلس الدولة الفرنسي الذي يمثل أعلى هيئة قضائية في البلاد استنادا إلى القانون الفرنسي، أعلن رؤساء بلديات نيس وفريجوس وسيسكو في جنوب شرق فرنسا تمسكهم بقرار المنع ورفضوا حكم مجلس الدولة، وطالبوا بإقرار قانون لحظره في البلاد.
وفي تحد واضح للقانون الفرنسي، قالت بلدية نيس إنها ستواصل تحرير محاضر للنساء اللواتي يرتدين هذا اللباس (البوركيني) ما لم يلغ قرارها، وقال رئيس بلدية فريجوس “ليس هناك أي إجراء سار ضد قرارنا”، كما أبقى رئيس بلدية سيسكو “كورسيكا” على قرار الحظر الذي اتخذه إثر مشادة بين مغاربة وسكان قرويين في بلدته منتصف أغسطس واعتبر أن هناك فعلا تهديدا للنظام العام.
ويتضح من هذا التصعيد أن هناك سعيا من قبل اليمين المتطرف الفرنسي لاستكمال معركته ضد المسلمين والذي اعتبره حياة أو موتا فيما يخص معركة البوركيني، فقالت زعيمة الجبهة الوطنية (اليمينية المتطرفة) ماريان لوبان، إن الحرب على البوركينى “لم تنته بعد” وإنهم سيسعون لاستصدار قرار رسمى من الحكومة المركزية بفرنسا، كما ظهرت الرغبة فى استمرار الحرب على البوركينى فى الحكومة الفرنسية، كما طالب نائب عمدة نيس، كريستيان استروسى، على حسابه على تويتر بإصدار تشريع للحظر قائلا “نحن بحاجة إلى قانون“.
واستغلالا لهذا الأمر، وحصدًا للشعبية قبل إجراء الانتخابات الرئاسية في عام 2017، أكد نيكولا ساركوزي، أنه إذا أعيد انتخابه لهذا المنصب سوف يطبق الحظر على ارتداء البوركينى الذي وصفه بـ”المستفز”، قائلا إنه لن يسمح بأن يفرض البوركينى نفسه على الشواطئ الفرنسية وحمامات السباحة، كما زعم أن قبول استقبال المهاجرين يهدد الهوية الفرنسية.
من ناحية أخرى، وفي تعليقه على القرار الذي أصدره مجلس الدولة الفرنسي، أكد المجلس أن “مظاهر القلق الناجمة عن اعتداءات إرهابية استهدفت مناطق فرنسية لا تكفي لتبرير حظر السباحة بالبوركيني”، مؤكدًا أن القرار المثير للجدل “شكل انتهاكا خطيرا وغير قانوني للحريات الأساسية المتمثلة في حرية التنقل وحرية الضمير والحرية الشخصية“.
ويعتبر هذا القرار نهائيا لكونه صدر عن أعلى سلطة قضائية إدارية في فرنسا، وقوبل القرار بالترحيب من قبل ممثلي المسلمين في فرنسا، ويجب تطبيقه في كافة أنحاء فرنسا بعد أن كانت 30 بلدية قد اتخذت قرارات بحظر البوركيني.
وذكر مجلس الدولة جميع رؤساء البلديات الذين استندوا إلى مبدأ العلمانية أن قرار منع ارتياد الشواطئ لا يمكن أن يصدر بناء على أي “اعتبارات أخرى” غير مبدأ الحفاظ على النظام العام مع ما يعنيه ذلك من “سلامة الوصول إلى الشاطئ وأمن السباحة، إضافة إلى الصحة العامة والحشمة“.
قصة البوركيني
منذ ظهور “البوركيني” اقتصر تناوله على قوى أقصى اليمين المتطرف المعروفة بمعاداتها للأجانب والمسلمين خصوصًا، حيث اعتبرته مظهرا لـ”أسلمة” المجتمعات الأوروبية، مثلما تنظر هذه القوى إلى الحجاب والنقاب والمآذن ومحلات اللحم الحلال.
وتحول البوركيني 2016، إلى موضوع سجال حاد تفجر في فرنسا وطال عدة بلدان أوروبية، وفي أغسطس 2016، رفضت إدارة مسبح في شمال مدينة مرسيليا طلبا تقدمت به جمعية محلية لإقامة نزهة في المسبح لنساء يرتدين “البوركيني”، وفي 13 أغسطس 2016، قدم عمدة مدينة “كان” الفرنسية عريضة وقعها عدد من العمد -أغلبهم من حزب الجمهوريين اليميني المعارض- تمنع ارتداء “البوركيني” على الشواطئ التابعة للبلديات، ورفعت منظمات حقوقية دعوى ضد القرار لكن المحكمة الإدارية أيدته.
الحكومة واليمين
أكد رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس، دعمه قرار رؤساء البلديات، واعتبر، في مقابلة له مع صحيفة لابروفانس، أن البوركيني هو “ترجمة لمشروع سياسي ضد المجتمع مبني خصوصا على استعباد المرأة”، وشدد على ضرورة “أن تدافع الجمهورية عن نفسها في مواجهة الاستفزازات”، كما دعا فالس السلطات للتنفيذ الصارم لقانون حظر النقاب في الأماكن العامة.
في المقابل، رفض القرار سياسيون فرنسيون ومنظمات مدنية حقوقية، فقد انتقد الناطق باسم الحزب الشيوعي الفرنسي أولفييه دارتيغول، في لقاء تلفزيوني، منع “البوركيني”، وقال إن فالس يتجاهل المشاكل التي تعيشها بلاده ويركز على “البوركيني” والإسلام في فرنسا.
وفي السابق حاول أنصار منع البوركيني تسويق فكرة أنه غير مطابق لشروط الصحة العامة في المسابح، لكنهم اصطدموا بحقيقة أن براءة اختراع البذلة والترخيص للماركة المسجلة “بوركيني” نصتا معا على مطابقته للشروط الصحية في المسابح العمومية. وفضلا عن الجدل القانوني، فإن كافة التحليلات تؤكد أن السير في طريق تشريع قانون يحظر هذا اللباس سيعزز موقع اليمين المتطرف.
ورحبت منظمة العفو الدولية بقرار المحكمة الأخير، وقال مدير المنظمة في أوروبا، جون دالهوسن، إن القرار “رسم خطا في الرمال”، وأضاف “على السلطات الفرنسية الآن التوقف عن الادعاء بأن هذه الإجراءات تحمي حرية النساء”، وأوضح “هذه الإجراءات لا تعزز السلامة العامة لكنها ترفع من المهانة العامة.”