على الخارطة الدولية تقسيمات جغرافية وحدود، وداخل كل حدود مساحة لدولة ذات سيادة، والسيادة في مفهوم القانون الدولي، هي سلطة محددة لحكومة محلية تملك حق احتكار ممارسة القوة والعنف بهدف تطبيق القانون على إقليم مُحدد من الأرض، يعيش عليه سكان معروفون.
هناك دول كبيرة في مساحتها الجغرافية، وهناك دول صغيرة في المساحة الأرضية، كما أن هناك دولاً فيها كثافة سكانية كبيرة، وهناك دول متواضعة في عدد السكان، إلا أن المساحة وعدد السكان ليسا العامل الحصري لمدى قوة الدولة، ولمستوى مكانتها بين الدول؛ لأن عوامل أخرى تتحكَّم بهذه الناحية، وأبرز هذه العوامل: مدى التماسُك الوطني بين شرائح السكان وقوة نظام الحكم، إضافةً إلى المقومات الاقتصادية والعسكرية والموقِع الجغرافي.
في الأغلب تؤثر العوامل الخارجية، أو الجغرافيا، أو الانتماء العرقي أو الديني للسكان في عملية تحديد الدولة، أو طريقة إنشائها، وقد عرف التاريخ المعاصر، نماذج مختلفة من الدول، منها ما كان كبيراً، ومنها ما كان صغيراً. ومنها دول تنتمي أغلبية سكانها إلى عرق مُحدد ولها جغرافيا مترامية وواسعة – روسيا على سبيل المثال – وهناك دول تُعتبر رمزية من حيث المساحة وعدد السكان، ولها مكانة معنوية كبيرة، وتتمتع بنفوذ ديني وسياسي كبير- دولة الفاتيكان مثالاً -.
والتماسُك الوطني بين المكونات السكانية للدولة، يُعتبر ذا أهمية قصوى في سياق قوة تأثير الدولة، وفي الأغلب يكون عدم التماسُك عامل تفرقة، أو تباعُد، أو تشتيت للقوة عند بعض الدول التي تعيش حالات من الاضطراب. فعندما كانت الولايات المتحدة الأمريكية يتقاتل بعضها مع البعض الآخر، لم يَكُن لديها المكانة المُتقدِّمة بين الدول، أما بعد أن توحدت في العام 1777 برزت كواحدة من أهم وأقوى الدول في العالم. والتضامن بين شعوب الولايات المختلفة أسس لدور إمبراطوري واسع لعبته واشنطن على المستوى العالمي.
وفي تجارب التاريخ المتنوعة والمتعددة، مجموعة من الأمثال، كلها تؤكد، أن التماسُك الوطني لأي دولة، دليل قوة، ومؤشِّر على رفعة مكانة هذه الدولة وقوة تأثيرها في الدول الأخرى، ويمكن اعتبار بلجيكا، إحدى هذه الدول التي كان لها تأثير استعماري كبير في دول خارجية ضعيفة، ذلك عندما كان التضامُن قائماً بين شرائح الشعب البلجيكي أي ( الفلمنك والويغون) في القرن التاسع عشر، وعندما اختلفت العرقيتان اللتان تتشكَّل منهما أغلبية سكان بلجيكا، ضعفت الدولة، وتلاشت مكانتها الخارجية، وانتهت تأثيراتها- أو هيمنتها – على شعوب أخرى، وبالتالي فقدت دورها الاستعماري.
مناسبة الكلام عن أهمية التماسُك، ودور التفكُّك في الدول، هو ما يحصل في الوطن العربي من مآسٍ يعود السبب الرئيسي فيها لغياب التماسُك في الدولة، أو في مؤسساتها على حدٍّ سواء، فالتفرقة المذهبية والعرقية في العراق أنهكت قوة الدولة، وأفرجت عن غُول الاستبداد الفئوي والجهوي، الذي تكون له في الأغلب نتائج مُدمرة. بينما الاستبداد والتفرقة الحزبية – إذا لم نقُل الفئوية – في سوريا، يقفان وراء الاقتتال بين أبناء الشعب الواحد، الذي عاش في كنف دولة متماسِكة ردحاً من الزمن من دون اقتتال أو حروب، وعندما انفجر الغضب الشعبي، وحصل التبايُن والاقتتال الداخلي، انطفأت شعلةُ التحرر، وغدت الأطراف المُتقاتلة شِيعاً تُساهم بتدمير ما تبقى من مكانة للدولة. تلعب بعض الدول المُتماسِكة وطنياً وشعبياً ومؤسساتياً، دوراً يفوق حجمها الشعبي، أو الجغرافي، أو الاقتصادي، ومنها ما يُمثِّل مكانة دولية عالية من جراء أدائها المُتعاظم، كوسيط، وكمُلتقى، وكحكم، بين الدول الأخرى، مثل دولة الإمارات العربية المتحدة على سبيل المثال لا الحصر. ويمكن لبعض الدول أن تكون قوة اقتصادية كبيرة رغم حجم ثرواتها المتواضعة، ومساحتها الصغيرة، مثال على ذلك «سنغافورة».
لقد دمَّرت الأحداث الأليمة التي عصفت ببعض الدول العربية التماسُك الوطني، وبالتالي فقد تلاشى تأثير بعض الدول إلى درجة مُتدنية. والاقتتال أو التنافُر الداخلي، في الأغلب يكون بتأثيرات خارجية، ذلك أن إضعاف الدولة المُنافِسة، في الأغلب يكون من خلال تفكيك وحدتها الداخلية، وإضعاف منسوب التماسُك بين أبنائها، أو مناطقها، أو مُكوناتها الاجتماعية أو الدينية، وهذه المُقاربة المُدمِّرة؛ واحدة من الأساليب «الإسرائيلية» الثابتة لإضعاف المقاومة العربية لمخططاتها العدوانية، كما أن هذا الأسلوب التفتيتي ذاته، اعتمدته بعض الأنظمة المجاورة للأمة العربية – لاسيما إيران – من خلال تغذية بعض العصبيات المذهبية ضمن النسيج الإسلامي الواحد، علماً أن العروبة الجامعة؛ كانت وعاء لكل التنوُّع والتباين الطبيعي بين مكونات الأمة.
الدول الوطنية العربية مدعوة اليوم، وأكثر من أي وقتٍ مضى، للتماسُك، والوحدة، وهذه وتلك الضمانة الأساسية للحفاظ على دور الأمة ورفعة مكانتها، ووقف الاقتتال البغيض بين أبنائها.
60 3 دقائق