عندما سيطرت عناصر الحشد الشعبي على مدينة الفلوجة العراقية، بدعم أمريكي في يونيو، احتجزت أو عذّبت أو انتهكت حقوق عدد من المدنيين السنّة، بما يفوق بكثير ما أعلنه المسؤولون الأمريكيون.
وكشفت وكالة رويترز في تقرير مطول أن أكثر من 700 سني -من البالغين والقصّر- ما يزالون مفقودين، بعد ما يزيد على شهرين من سقوط المدينة التي كانت معقل تنظيم داعش.
وحدثت الانتهاكات رغم جهود الولايات المتحدة لتحجيم دور الحشد الشعبي في العملية بما في ذلك التهديد بسحب الدعم الجوي الأمريكي، حسب روايات مسؤولين أمريكيين وعراقيين.
ولم تحدث الجهود الأمريكية تأثيرًا يذكر، فعناصر الحشد الشعبي لم تنسحب من الفلوجة، وشارك بعضها في جرائم سلب ونهب هناك، وهي الآن تتوعد بتحدي أي جهد أمريكي للحد من دورها في عمليات قادمة ضد داعش.
انتهاكات تصل حدّ الذبح
وكان هناك إجماع على أن الميليشيات قتلت 66 سنيًا على الأقل، وانتهكت حقوق ما لا يقل عن 1500 آخرين أثناء فرارهم من منطقة الفلوجة، حسب ما ورد في لقاءات مع أكثر من 20 شخصًا ما بين ناجين وشيوخ عشائر وساسة عراقيين ودبلوماسيين غربيين.
وأضاف هؤلاء أن مقاتلين من الحشد أطلقوا النار على رجال وصبية وضربوا آخرين بل وذبحوا البعض.
واتفقت هذه الروايات مع نتائج تحقيق أجرته السلطات العراقية المحلية وشهادات مسجلة بالفيديو وصور فوتوغرافية التقطت لناجين فور خلاصهم، واطلعت عليها رويترز.
والمعركة ضد داعش هي أحدث فصل في الصراع الذي تفجّر بين الشيعية والسنّة بالعراق مع الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003. وأنهت الحرب عقودًا من حكم السنة في عهد صدام حسين وجلبت إلى السلطة سلسلة من الحكومات هيمنت عليها أحزاب شيعية متحالفة مع إيران.
عجز واشنطن
ويثير عجز واشنطن عن السيطرة على العنف الطائفي قلقًا كبيرًا الآن لدى مسؤولي الإدارة الأمريكية في وقت يمضون فيه قدمًا في خطط مساعدة القوات العراقية على استعادة مدينة الموصل الأكبر حجمًا بكثير، والمعقل الرئيسي لداعش بالعراق، فالعمليات التمهيدية لتطهير المناطق الواقعة خارج المدينة الاستراتيجية مستمرة منذ أشهر، ويخشى زعماء سنة بالعراق ودبلوماسيون غربيون أن ترتكب عناصر الحشد الشعبي الشيعية تجاوزات أسوأ في الموصل ثاني كبرى مدن العراق.
وكان تنظيم داعش المتطرف قد سيطر على المدينة ذات الغالبية السنية في يونيو 2014.
مخاوف في الموصل
ويقول مسؤولون أمريكيون، إنهم يخشون أن تقضي انتهاكات الحشد الشعبي -إن تكررت في الموصل- على فرص المصالحة بين سنة العراق وشيعتهن وصرح مسؤول بارز بإدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما بالقول “في كل حديث دار بيننا فيما يتعلق بتخطيط الوضع في الموصل وفي كل حديث أجريناه مع العراقيين.. كان هذا فعليًا موضوعًا محوريًا” في إشارة إلى المخاوف من انتهاكات الحشد الشعبي.
وفي العلن، ومع توارد روايات الناجين والمسؤولين العراقيين وجماعات حقوق الإنسان عن انتهاكات الفلوجة، قلّل المسؤولون الأمريكيون في واشنطن في البداية من شأن المشكلة ولم يكشفوا عن فشل المساعي الأمريكية لتحجيم تلك الفصائل الشيعية.
وفي إفادة صحفية بالبيت الأبيض في العاشر من يونيو، أبدى بريت مكجيرك المبعوث الأمريكي الخاص للتحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد داعش قلقه مما وصفه بأنه “تقارير عن أعمال وحشية منفردة” ضد السنّة الفارين.
وقبل الإفادة الصحفية بثلاثة أيام، أبلغ صهيب الراوي محافظ الأنبار السفير الأمريكي بأن هناك مئات مفقودون حول الفلوجة، بعد أن احتجزتهم فصائل شيعية وذلك حسبما صرح الراوي.
وبحلول موعد الإفادة الصحفية بالبيت الأبيض كان مسؤولون عراقيون ومحققون معنيون بحقوق الإنسان والأمم المتحدة قد جمعوا أدلة على إعدام العشرات وتعذيب المئات من البالغين والقصّر واختفاء أكثر من 700 آخرين.
وبعد حوالي 3 أسابيع وفي الثامن والعشرين من يونيو، تفوّه مكجيرك بكلمات محسوبة خلال شهادة أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي، إذ قال إنه تم تلقي تقارير عن حدوث انتهاكات في الأيام الأولى من العملية “كثير منها تبين أنها لم تكن جديرة بالتصديق لكن بعضها بدا جديرًا بالتصديق”.
ورفض مكجيرك طلبًا لإجراء لقاء معه، وقال مارك تونر نائب المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، إن المسؤولين الأمريكيين أبدوا “قلقًا في السر والعلن” إزاء التقارير التي تحدث عن حدوث أعمال وحشية.
وأضاف “نرى أن أي انتهاك غير مقبول على الإطلاق، وأي انتهاك لحقوق الإنسان يجب أن يجرى التحقيق بشأنه مع أولئك الذين تم تحميلهم المسؤولية عنه”.
أما زعماء الحشد الشعبي فينفون أن فصائلهم أساءت معاملة المدنيين ويقولون إن المفقودين ما هم إلا مقاتلون من داعش قتلوا أثناء المعركة.
انتقام
واختلف مسؤولو الحكومة العراقية أيضا مع الأنباء التي تحدثت عن تعرض المدنيين للعنف على نطاق واسع، وقال صفاء الشيخ نائب مستشار الأمن الوطني في حكومة رئيس الوزراء حيدر العبادي خلال مقابلة إن هناك بضعة حوادث، لكنه أضاف أن هناك الكثير من المبالغات، وأن بعض التقارير ليس لها أي أساس من الصحة.
وكانت كبرى الفصائل الشيعية المسلحة التي درّبتها طهران وسلّحتها قد ظهرت خلال الاحتلال الأمريكي من عام 2003 إلى عام 2011، وازدادت قوة ونفوذًا، وبعد أن ساعدت الحكومة في الدفاع عن بغداد عندما سيطر داعش على الموصل عام 2014 أصبحت هذه الفصائل ذراع الحكومة العراقية، وذبح مقاتلو داعش آلاف العراقيين من مختلف الطوائف.
وهناك الآن أكثر من 30 جماعة شيعية يتلقى أعضاؤها رواتب من الحكومة، وتشغل الجماعات الرئيسية مناصب في الحكومة ومقاعد في البرلمان.
أسلحة أمريكية بيد الحشد الشعبي
وازدادت هذه الجماعات قوة بحصولها على جزء من المعدات العسكرية التي باعتها الولايات المتحدة أو أعطتها للعراق منذ عام 2005 والتي تزيد قيمتها عن 20 مليار دولار.
ويشير مسؤولون أمريكيون وخبراء مستقلون وكذلك صور وتسجيلات فيديو نشرها أعضاء بالفصائل الشيعية على الإنترنت إلى أن هذه الأسلحة تشمل حاملات جند مدرعة وشاحنات وعربات همفي ومدفعية وحتى دبابات.
ومن الناحية الرسمية فالحشد الشعبي مساءل أمام العبادي، أما من الناحية الفعلية فإن فصائله الرئيسية لا تُساءل إلا أمام نفسها وترفع أعلامها وشعاراتها وتتلقى الأوامر من فيلق القدس تلك القوة الإيرانية الخاصة المسؤولة عن العمليات خارج الحدود الإقليمية.
وبدأت عملية الفلوجة في الثاني والعشرين من مايو، وعلى مدى أكثر من عام ظل المسؤولون الأمريكيون يحذرون مسؤولي العراق مرارًا من أن الولايات المتحدة ستوقف دعمها الجوي في المناطق التي تعمل فيها الفصائل المسلحة خارج تسلسل القيادة الرسمي بالجيش العراقي.
وقال مسؤولون أمريكيون، إن هذه السياسة كانت تهدف لمنع الطائرات الأمريكية من قصف قوات عراقية بطريق الخطأ ومنع فصائل الحشد الشعبي من دخول مناطق تعتبر ذات حساسية بالنسبة للسنة.
وخلال أول يومين من عملية الفلوجة، تواترت أنباء عن قيام عناصر الحشد الشعبي بفصل الذكور عن بقية أفراد أسر الفارين.
ومارس دبلوماسيون أمريكيون وغربيون ومن الأمم المتحدة ضغوطًا على العبادي وعلى غيره من كبار المسؤولين العراقيين، وزعماء الحشد الشعبي لوقف الانتهاكات. ودعا العبادي وزعماء سياسيون آخرون علنًا إلى حماية المدنيين.