وهكذا مثلما وجد الأوروبيون المهاجرون في ثروات القارة الجديدة وخيراتها ما يغتنون به، فيتحولون سريعاً من مهمشين وعاطلين إلى ذوي فرص مثالية للكسب والإثراء، وجد الأوروبيون في هجرة فائضهم السكاني الفرصة المثالية لانفرادهم بما لديهم من مقدرات كان عليهم التنازل عن قسم منها لصالح جسم عاطل، وعالة على بلدان أوروبا. وهكذا أصبح تقدم أوروبا، ابتداء، ثم أمريكا تالياً وكأنه ثمرة إعادة لتركيب بين هيكل توزيع الثروة وهيكل توزيع السكان على نحو عجيب: سكان قارة، هي أوروبا، يقتسمون ثروات قارتي (أوروبا وأمريكا)، ويحتكرونها لينتقلوا، بعد قرنين، إلى محاولة احتكار الثروة في العالم كله!
ولقد ظلت أمريكا نقطة جذب مستمرة للأوروبيين، فقد أغرت ثرواتها الهائلة طبقات اجتماعية أخرى (وسطى، عليا) بتدفق هجراتِها إلى أمريكا، بحثاً عن فرص الاستثمار وبناء الثروة، بدءاً من القرن الثامن عشر، فلم تعد أمريكا بعدها مجرد مقصد للمغامرين والمنبوذين والعاطلين عن العمل مثلما كان عليه أمرها قبل قرنين من قيام دستورها وثورتها. وكلما تعاظم نظامها الزراعي والصناعي، تعاظمت الهجرة إليها، فمست الفئات والشرائح العليا، الغنية والمتعلمة من الأوروبيين. ثم ما لبثت نقاط الجذب فيها أن تعددت: من النظام التعليمي، وفرص العمل التي وفرها الرفاه الاقتصادي، إلى الاستقرار السياسي المديد الذي تمتعت به الولايات المتحدة الأمريكية خاصة نتيجة عزلتها الطبيعية عن العالم، التي عزلتها – بالتالي – عن أزماته ومشكلاته قبل أن تختار الدخول فيها في الربع الثاني من القرن العشرين.
والحق أن أمريكا، والولايات المتحدة أساساً، صناعة أوروبية بامتياز. انتزعها المغامرون و»البروتستانت الطهوريون» إلى جانب «جحافل المسكونيين»، بالقوة من السكان الأصليين بالعنف الأعمى، الذي كانت نتيجته إبادة نحو مئة وعشرين مليوناً من السكان الأصليين في الأمريكيتين، وبناها هؤلاء والأفارقة الرقيق زراعة ثم صناعة فتكنولوجيا. ولا ينبغي أن يغرب عن البال أن المهاجرين إليها حملوا معهم خبرات بلدانهم الأوروبية – خاصة بريطانيا وفرنسا – وطوروها في العالم الجديد مستفيدين من الثروات الطبيعية الخيالية التي تمتعت بها القارة. وكما أن الأصول الأوروبية للمهاجرين تفاوت تأثيرها في القارة بسبب تفاوت التطور بين شعوب أوروبا ومجتمعاتها، فكذلك تفاوت تأثير أوروبا في أمريكا تبعاً للحقب التي وقعت فيها الهجرات الأوروبية. وهنا ينبغي التنبيه إلى أن العصر الذهبي للتأثير الأوروبي كان في النصف الثاني للقرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، حيث هاجرت إليها كبرى العائلات الصناعية والمالية، وكبار العلماء والعقول.
والمفارقة، هنا، أن العوامل التي كانت كابحة للتقدم في أوروبا، مثل: الحروب والنزاعات التي لم تتوقف فيها، منذ الثورة الإنجليزية في القرن السابع عشر حتى الحرب العالمية الثانية، صبت نتائجها في مصلحة الولايات المتحدة التي شكل استقرارها السياسي عامل الجذب لرؤوس الأموال والصناعات والعلماء والأكاديميين. ويكفي كمثال حديث لذلك أن نكبة ألمانيا، في عهدها النازي، كانت نعمة على الولايات المتحدة التي استقبلت عشرات الآلاف من أفضل العلماء والعقول والخبرات التي تغذت منها صناعات أمريكا وتكنولوجيتها وعلومها وجامعاتها.
أما أم المفارقات في علاقة أمريكا بأوروبا فهي أن الوليد العاصي، المتمرد العاطل الذي خرج من أحشاء أوروبا، أفلح فيما لم يفلح فيه من أنجبته (أوروبا)، أصبح المنبوذ هو السيد، فيما تحول الأوروبي إلى تابع مطيع يقوده الأمريكي إلى حيث يشاء، دون أن يبدي الأول أي اعتراض! أليس هو من أنقذه من النازية؟، ومن الشيوعية؟، وأعاد إليه أوروبا التي كاد أن يبتلعها هتلر وستالين؟! ولعل قصة السيد الأمريكي والتابع الأوروبي ستستمر زمناً آخر طويلاً قد يكون أصعب من الزمن الألماني والزمن السوفييتي والزمن الصيني.